في غمرة الحديث عن تداعيات الفوز الكبير لحركة المقاومة الإسلامية ''حماس'' في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، حظيت الساحة السياسية في فلسطين، وكذلك الصراع العربي-الإسرائيلي بأوسع اهتمام، ولكن ثمة بعداً لم يحظ باهتمام كبير وهو دلالات هذا الفوز عربياً، وخاصة من منظور القوى السياسية المختلفة في الوطن العربي وأوزانها النسبية، فـ''حماس'' محسوبة بشكل أو بآخر على تيار ''الإخوان المسلمين''، ومن ناحية أخرى فإن فوزها جاء في سياق عملية تاريخية بطيئة لصعود هذا التيار خاصة بعد الهزيمة العربية عام ،1967 كما جاء هذا الفوز في سياق شهد تبدلا في أساليب ذلك التيار؛ من الصدام مع السلطات الحاكمة إلى محاولة المشاركة في المؤسسات الرسمية للنظام السياسي، بدليل حضور ''الإخوان المسلمين'' في عديد من برلمانات الوطن العربي، كذلك لم يكن صدفة أن فوز ''حماس'' جاء عقب إنجاز كبير حققه ''الإخوان المسلمون'' في الانتخابات التشريعية الأخيرة في مصر·
لكن فوز ''حماس''، باعتبارها جزءاً من الحركة ''العربية'' لـ''الإخوان المسلمين'' -إذا ما جاز التعبير- يبقى متفرداً من حيث دلالاته؛ فقد مثل الحالة الأولى التي يُعترف فيها لتيار ديني بحصوله على أغلبية برلمانية في انتخابات تشريعية ديمقراطية نزيهة· ذلك أن إمعان النظر في المحاولات السابقة للتيار الإسلامي في الوطن العربي للوصول إلى السلطة خلال أزيد من نصف القرن تشير إلى أننا قبل فوز ''حماس'' كنا إزاء ثلاثة أنماط لفعالية التيار الإسلامي في سعيـــه للوصــول إلى السلطة·
في النمط الأول تمكن ذلك التيار من الوصول إلى السلطة فعلاً، إما لمدة قصيرة كما هو الحال في ثورة 1948 في اليمن التي شارك فيها ''الإخوان المسلمون'' بنصيب وافر، لكن النظام العربي الرسمي خنقها منعاً لامتداد آثارها الخطيرة (الحكم الدستوري) إليه، وإما لمدة طويلة كما في الحالة السودانية التي وصلت فيها ''الجبهة القومية'' إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، وإن كانت تحديات السلم الأهلي والتدخلات الخارجية قد أصابت منها ما أصابت· لكن الأمر الواضح أنه في الحالتين تم الوصول إلى السلطة بطريقة غير ديمقراطية، وإذا كان القدر لم يمهل ثورة 1948 في اليمن من العمر ما يجعلها قادرة على اكتساب شرعية الإنجاز، فقد أمهل الجبهة القومية في السودان إلى حد ما، ومع ذلك فلم تستغل الفرصة، وتم استنزاف السودان في عهدها من خلال حروب أهلية طويلة ومحاولات تدخل إقليمي ودولي كثيفة، ناهيك عن عوامل الضعف والتفكك داخل القوى الحاكمة نفسها، والإخفاق في التحول إلى نظام ديمقراطي حقيقي واضطرار نظام حكم الجبهة إلى تغيير خطابه السياسي جذرياً في مسألة مهمة كالسلم الأهلي في الجنوب، وهو تغيير كشف عن إخفاق الشعار الأصلي للنظام الذي كَيَّفَ الحرب الأهلية باعتبارها جهاداً دينياً·
أما في النمط الثاني فكان التيار الديني على وشك الوصول إلى الحكم من خلال آلية ديمقراطية، كما في أداء جبهة الإنقاذ في الحالة الجزائرية عام ،1991 لكن الجيش لم يكن على استعداد للتسليم بهذه الحقيقة وبالتغييرات المتوقعة من جرائها، فتم إجهاض الانتخابات بما أدى إليه ذلك من تداعيات خطيرة على الوضع السياسي الجزائري لاحقاً·
في النمط الثالث والأخير تمكن ''الإخوان المسلمون'' من الدخول إلى المؤسسة التشريعية في النظام السياسي، وإن بأعداد ونسب متفاوتة، وهكذا نجد أن المجالس النيابية في بلدان عربية عديدة تضم عناصر من ذلك التيار عامة، بل شارك هؤلاء في حكومة ائتلافية كما هو الحال بالنسبة لـ''حزب الإصلاح'' في التجربة اليمنية عقب أول انتخابات تشريعية أجريت بعد الوحدة عام ،1993 لكن التجربة لم تستمر إذ تمكن ''حزب المؤتمر الشعبي العام'' من الفوز بالأغلبية المطلقة في الانتخابات التالية وإن بقي ''حزب الإصلاح'' قوة معارضة قوية في النظام·
لهذا كله يبدو فوز ''حماس'' بالأغلبية المطلقة في انتخابات ديمقراطية والقبول به، واقعة غير مسبوقة، لدرجة جعلت البعض يرى أن تداعياتها على الوطن العربي سوف تكون بالغة الأهمية؛ على أساس أن فوز ''حماس'' يمثل خطوة مهمة في العملية التاريخية لصعود التيار الديني في الوطن العربي، وأن ''حماس'' لو تمكنت من تقديم إجابات صحيحة على الأسئلة التي أثارتها النخب الفكرية والسياسية العربية المعارضة للتيار الديني في أعقاب صعوده في الحالة المصرية، ستمثل دفعة قوية أخرى لذلك الصعود، إذ أن تلك النخب، وقد أقلقها الحضور المتزايد لممثلي ''الإخوان'' في المؤسسة التشريعية قد بدأت تثير أسئلة جذرية: هل أنتم متمسكون بالديمقراطية نهجاً أم ستقومون بإلغائها بعد فوزكم بالأغلبية؟ كيف ستكون علاقة المسلم بالمسيحي في ظل حكمكم، وهل سيكون أساسها مبدأ المواطنة؟ ما موقفكم من حرية الفكر والإبداع على ضوء ضوابطكم الدينية؟ وما موقفكم أيضا من إسرائيل والتسوية السلمية معها؟ إلى آخر الأسئلة التي كانت في جزء منها تعبيراً عن قلق مشروع، وفي جزء آخر محاولة للتخويف من هؤلاء القادمين الجدد!
ولو أن