من شمالي أوروبا وحتى أفغانستان وما وراءها، تصاعدت موجة الغضب الشعبي على الرسوم الكاريكاتيرية التي صورت النبي محمدا صلى الله عليه وسلم· وفي يوم الاثنين الماضي، لقي أربعة من المتظاهرين الأفغان ضد تلك الرسوم حتفهم، بينما سقط عدد آخر في كل من لبنان والصومال· أما في سوريا ولبنان، فقد أقدم المتظاهرون على إحراق سفارتي الدنمارك والنرويج· وإزاء مشاعر الغضب الشعبي العارم هذه، فلأي مدى يمكن الترحيب بدعوة كل من رئيس الوزراء الإسباني المسيحي، ونظيره التركي المسلم للهدوء وضبط النفس؟ يذكر أن كلاً من رودريجيز ثاباتيرو ونظيره رجب طيب أردوغان قد وجها نداءً بهذا المعنى عبر صحيفة ''إنترناشونال هيرالد تريبيون'' في الخامس من شهر فبراير الجاري· وجاء في ندائهما أن الجميع سيخسرون -مسيحيين ومسلمين- ما لم ننزع فتيل هذه الأزمة ونطفئ نيرانها· ومن هنا فإنه لمن الأهمية بمكان أن ننادي بالهدوء والاحترام، وبالاحتكام إلى صوت العقل·
والمعروف عن ثاباتيرو أنه اشتراكي مسيحي، بينما يعرف أردوجان بزعامته للوسطية الإسلامية في بلاده، وقد أصاب كلاهما في القول إنه في مقدور حادثة واحدة ذات طابع محلي، أن تكون لها تداعياتها وعواقبها الوخيمة في عالمنا المتشابك هذا· وبهذا النداء، إنما استدعى القائدان الإسباني والتركي، الدور التاريخي الذي لعبته بلداهما في تلك اللحظة البعيدة في مفترق الطرق ما بين الشرق والغرب· واستكمالاً منهما لذلك النداء، فقد دعا الزعيمان إلى تعزيز برنامج الإئتـلاف الحضاري الذي كان قد بدأ العام الماضي·
وبسبب إمكان تطور الوضع الراهن إلى مستوى جد كارثي وخطير، فإن من الأدعى أن نستعيد الأحداث ونرى كيف تطورت أصلاً· كما يلزم النظر إلى شتى الآراء ووجهات النظر المتباينة حول هذا الأمر· يذكر أن الرسوم الكاريكاتيرية مثار الأزمة، كانت قد نشرتها في سبتمبر الماضي، صحيفة يومية دنماركية· وكان المحرر الثقافي للصحيفة، قد دعا رسامي الكاريكاتير إلى تقديم أعمالهم ونماذجهم عن النبي محمد· وعلى رغم علمه التام بأن كافة مسلمي العالم البالغ عددهم 1,3 مليار نسمة تقريباً، يعتبرون أن توصيف وتصوير نبيهم محرم وفيه إساءة لمقدساتهم ومعتقداتهم، إلا أنه آثر اختبار السقف الديني الاجتماعي وقياس مدى الليبرالية التي يمكن أن يواجه بها ذلك التحريم على النطاق المحلي الدنماركي· وكان أن تقدم اثنا عشر رساماً من الرسامين بأعمالهم، فوجدت جميعها طريقها إلى النشر· يشار إلى أن واحداً من تلك الرسوم على الأقل، أظهر النبي محمداً وأتباعه بمظهر طغت فيه على شخصياتهم سمات الغلظة والعنف الشديدين·
وكانت ردة الفعل المباشرة أن تظاهرت الجالية المسلمة الدنماركية الصغيرة المحدودة، بينما خاطب سفراء الدول الإسلامية في الدنمارك وأعضاء جماعات إسلامية مختلفة، رئيس الوزراء الدنماركي آندريه فوف راسموزين، موضحين مدى الإساءة التي أحسوا بها جراء تلك الرسوم الخادشة لعقيدتهم وديانتهم، مطالبين إياه بحمل الصحيفة على الاعتذار، علاوة على اعتذاره هو شخصياً نيابة عن بلاده· ولكن جاء رد راسموزين على ذلك الطلب بامتناعه عن التدخل ونصحه برفع دعوى قضائية ضد الصحيفة تحت نصوص القوانين الدنماركية التي تمنع الإساءة إلى المقدسات الدينية· وعلى الرغم من إثارة الأمر قضائياً على نطاق الدنمارك، إلا أن تداعيات تلك الرسوم غادرت الحدود الجغرافية السياسية للحدث بكثير، لتهز أرجاء العالم الإسلامي بأسره، ما بين تاريخ النشر ورفض رئيس الوزراء الدنماركي التدخل والاعتذار· والحقيقة الماثلة حتى الآن أن السيد راسموزين لم يعتذر حتى هذه اللحظة، على رغم قوله خلال لقاء تلفزيوني أجري معه مؤخراً، إنه يشعر بكثير من القلق والحرج من أن تكون تلك الرسوم قد فهمت من قبل المسلمين على أنها قذف متعمد لسمعة نبيهم وتلطيخ لمقدساتهم وعقيدتهم، مما يعلو على الاعتذار أصلاً· وفي تلك الأثناء مضت صحف أوروبية إلى نشر الرسوم ذاتها، تمسكاً وإصراراً منها على المشاركة فيما ترى فيه دفاعاً عن حرية التعبير· وبما أن هذه الأزمة وتداعياتها قد بلغتا ما نراه الآن من غليان وتصعيد، فقد لزم النظر إليها على أنها تنازع ما بين ''حرية التعبير'' و''احترام المقدسات والمعتقدات الدينية''· ليس ذلك فحسب، بل كيف يمكن التوفيق بين هذه التنازعات وما نرى من تداخل وتشابك يومي بين مختلف ثقافات وحضارات العالم؟ والإجابة المباشرة على السؤال الأخير، تتلخص في ضرورة نبذ العنف بكافة صوره وأشكاله، واستبداله بالحوار الحضاري الفكري المحترم بين الثقافات· ولا بد لهذا الحوار أن يشمل إعادة فحصنا لمفهومي ''العنف'' و''القداسة'' نفسيهما· وفيما يتصل بالعنف، فإنــه ربما كان مفيداً هنا الأخذ في الاعتبار بمفهـوم ''العنف الرمزي''·
وإن كنا نتوخى الهدوء والحكمة وسيادة صوت العقل والحوار الحضاري، فإنه يلزم القول إن نشر تلك الرسوم يعد شكلاً من أشكال العنف الواجب نبذه، لكونها لا تقل عن إحراق العلم الوطني لدولة أو أمة ما، وغيرهما من ممارسات ال