اشتعل العالم الإسلامي فجأة، من أقصاه إلى أقصاه، ضد الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية المسيئة للذات النبوية وللإسلام، رغم مرور عدة أشهر على نشرها· لا أحد يعرف الآن على وجه الدقة سبب هذا التأخر في التفاعل مع بداية نشر الرسوم، ولكن المظاهرات والمسيرات عمت بلدان العالم العربي والإسلامي احتجاجاً على نشرها، وبخاصة بعد أن أعيد نشرها في صحف أوروبية وغير أوروبية لاحقاً، وسرعان ما تصاعد الاحتجاج ليشمل مقاطعة البضائع الدنماركية وحرق الأعلام وتدمير السفارات والقنصليات بل والتهديد بحرق الكنائس في فلسطين ولبنان والعراق!
لا جدال في أن هذه الرسوم كانت بالغة السوء ومهينة، ولا علاقة لها بما زُعم ولا يزال حول حرية الفكر والرأي، وإذا كان الإعلام الدنماركي بصدد توجيه نقد قاس للتشدد الديني الإسلامي أو الإرهاب، فإن ما فعله هذا الرسام كان خطأ قاتلاً، وكان أسوأ مدخل في هذا الصراع· بل هو على العكس، وجه في الواقع ضربة قاسية للاعتدال الديني والتسامح السياسي والحوار الإسلامي-المسيحي، وكل ما يعول عليه العقلاء والإصلاحيون في الشرق والغرب على حد سواء! ولن نضيف جديداً إن قلنا إن مثل هذه الرسوم كانت بمثابة هدية ثمينة غير متوقعة··· لتنظيم ''القاعدة'' وأتباعه· وقد حاول البعض في الإعلام الغربي عقد مقارنة بين مثل هذه الرسوم الكاريكاتيرية في الدنمارك وغيرها، وتلك الرسوم التي تنشرها الصحف العربية ضد إسرائيل، باعتبار أن مثل هذه الرسومات تدخل تحت باب ''معاداة السامية''، والسخرية من نجمة داوود أو زعماء الدولة العبرية!
ولا شك أن معسكر التشدد والانغلاق في العالم الإسلامي سيستثمر هذا الحدث لفترة طويلة قادمة· غير أننا الآن علينا أن ندرس بعض جوانب هذا الحدث العاصف ونحلل مجرياته· إن أول ما يلاحظه المتابع هو استفادة الجماعات الإسلامية من الحدث لضرب أكثر من عصفورين، فهي من جانب تريد إحراج الدول والأنظمة العربية والإسلامية، كما أن هذه التطورات أتاحت فرصة عظيمة للإسلام السياسي كي يتفلت من الضغوط التي تحاصره منذ أحداث سبتمبر· ولا شك أن المسلمين قد عبروا في أحيان كثيرة ودول عديدة عن استيائهم بشكل تلقائي وذاتي، ولكن الأحزاب المتشددة وجدت في هذه المظاهرات بيئة خصبة للاستثمار السياسي واستعراض القوة· ثاني ما يلاحظ على أحداث الرسوم الدنماركية هو فشل العالم العربي والإسلامي في تحويل غضب الاستياء والاندفاع الجماهيري إلى طاقة منتظمة يمكن من خلالها كسب الصحافة الدنماركية والأوروبية على المدى الطويل، بل أكاد أقول إننا خسرنا الحرب رغم كسب المعركة· لقد ألقينا، في أحسن الأحوال، الرعب في قلوب الدنماركيين والنرويجيين، وهددنا الآخرين بويلات الغضب الساطع والمقاطعة، وانتقمنا من أوروبا··· ولكننا لم نقنعها ولم نكسب احترام الإعلام·
وثالث ما يمكن رصده في هذه الأزمة هو ذلك الخليط من الجهل واللامبالاة بالمؤسسات الغربية والتعقيدات القانونية والتفاصيل التي تؤثر في تلك البلاد· فبدلاً من عزل ذلك الرسام عن البيئة الأوروبية المتعاطفة مع سلوكه الفني والثقافي وطرق تعبيره عن أفكاره، عبر إصدار البيانات والحوارات، قمنا بجمع أكبر عدد من الأعلام الدنماركية والفرنسية وغيرها كي نحرقها أمام تلفزيونات العالم، وبهذا كسبنا عداء المحايدين من الدنماركيين، دع عنك المتعاطفين معنا ممن أحرجناهم!
ولم تكن جماعات الإسلام السياسي وبعض أئمة المساجد الوحيدين في ميدان المصارعة، حيث خطب أحد الدعاة ساخراً من شعب الدنمارك بقوله، ''حتى الذين يربون الأبقار ويبيعون اللبن أصبحوا يتهكمون علينا''· ودخلت بعض الأنظمة على الخط كذلك، وتم تدمير بعض السفارات وحرقها· وجاء في تحليل أسباب السماح لمثل هذا التطرف، أن الحكومات العربية كانت تقود حملة ضد الحملة الأميركية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وتقول للأميركان والأوروبيين بصريح العبارة: ''إذا أسقطتم الأنظمة الحالية، فأمثال هؤلاء المتشددين الإسلاميين في انتظاركم''!
رابع ما شعرت به شخصياً، مع احترامي لكل رأي آخر، هو مدى اتساع الفقر والبطالة والفوضى في العالم العربي والإسلامي، ومدى الانفلات السياسي والأزمات الموشكة على الانفجار في كل مكان··· تقريبا· فالكثير من المظاهرات والتقارير التلفزيونية وصور حرق الأعلام وتدمير السفارات وملامح وملابس المتظاهرين، تنطق بتردي الأوضاع الاقتصادية وتخلف الحياة الاجتماعية والفوضى والفلتان· إن الكثير من هؤلاء كما هو واضح ليس معادياً للدنمارك والنرويج فحسب، بل هو معادٍ ربما لكل العالم· ولو كان الأمر بيده، لرجع العالم العربي سنوات طويلة إلى الوراء· ولقد سألت نفسي: أين هذه الجماهير من حقوقها الديمقراطية والتنموية؟ لماذا لا تحركها إلا مثل هذه الأحداث ومعاداة أوروبا وأميركا، وترضى بعد ذلك أن تعيش قانعة خانعة لسنوات طويلة أخرى؟ أنقل للقارئ في نهاية المقال رأيين لكاتبين من التيار الإسلامي في الكويت حول رسومات الدنمارك والأحداث اللاحقة··· فهما يلخصان الكثير من الموا