ما زال الفوز الساحق الذي حققته ''حركة المقاومة الإسلامية'' (حماس) في الانتخابات التشريعية الفلسطينية هو الموضوع الذي يحظى بأكبر قدر من الاهتمام في الأوساط السياسية والإعلامية في الكيان الصهيوني، بل ويمكن القول إنه يطغى على الاهتمام بانتخابات الكنيست التي لم يتبق على إجرائها سوى أسابيع قليلة·
وينطوي هذا الاهتمام نفسه على مفارقة تستحق التأمل، وهي تبادل الأدوار المألوفة بين المحتل والخاضعين للاحتلال· فالمحتل هو الطرف الأقوى من الناحية المادية، وهو الذي يملك قدرات اقتصادية وعسكرية هائلة تتيح له فرض سيطرته الشاملة براً وجواً وبحراً على الأراضي الفلسطينية، وبناء المستوطنات والتوسع فيها، وتدمير القرى والبلدات الفلسطينية، واغتيال عشرات من قيادات المقاومة، كما أنه الطرف الذي يتمتع بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأميركية، وهي القوة العظمى الأولى في العالم، وبصمت مطلق أيضاً من جانب الدول العربية والإسلامية، مما يعطي الانطباع بأن بوسعه أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء وأينما يشاء· ومن الطبيعي، والأمر كذلك، أن يكون هذا المحتل هو الذي يملك زمام المبادرة سواء فيما يتعلق بمصيره أو بمصير الخاضعين للاحتلال· إلا أن ما كشفت عنه الانتخابات الفلسطينية هو على العكس من ذلك تماماً· فهذا المحتل، حسبما يتضح من التحليلات والتعليقات المتواترة، أصبح يشعر بأن مصيره معلق بإرادة الشعب الفلسطيني وباختياراته، وأن مستقبل الدولة الصهيونية لا يحدده فقط صناع القرار في تل أبيب، ولا حتى في واشنطن، بل يشارك في صياغته المواطنون الفلسطينيون الذين لم تفلح سنوات الاحتلال الطويلة وسياسات القمع المنظم في إخماد مقاومتهم أو إجبارهم على التخلي عن حقوقهم·
ولعل إدراك هذا التحول، بما له من دلالات عميقة وآثار مستقبلية أعمق، هو السبب الكامن وراء حالة الهلع التي تغلب على كتابات معظم المحللين في الكيان الصهيوني في أعقاب الانتخابات الفلسطينية، والتي تدفع البعض إلى إعادة النظر في كثير من المنطلقات التي استندت إليها سياسات الكيان الصهيوني وتقديرات الراعي الأميركي، بما في ذلك مقولة ''نشر الديمقراطية'' التي يتشدق بها الرئيس الأميركي بوش لتبرير حروبه العدوانية في أفغانستان والعراق مدعياً أنها كفيلة بحل كل المشاكل التي تعاني منها شعوب العالم·
وفي مقال يحمل عنواناً ذا مغزى وهو ''ديمقراطية أكثر من اللازم'' (صحيفة هآرتس، 3 فبراير 2006)، يعبر شموئيل روزنر عن هذا الإحساس بخيبة الأمل في الرؤية الأميركية بخصوص الديمقراطية، حيث يرى أن ''مشروع نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط ما زال يراوح مكانه في العراق وأماكن أخرى كثيرة''، وأن ''ما جرى في الانتخابات الفلسطينية يزيد العملية السياسية تعقيداً بشكل كبير''، فضلاً عن أنه قد يؤدي إلى إدراك الإدارة الأميركية أن ''الحلم بالديمقراطية أمر جيد ومرغوب، ولكن ليس في هذا ما يكفي''، وخاصةً إذا جاءت نتائج العملية الديمقراطية على غير هوى من يروجون لقدراتها السحرية·
ويوجه المحلل العسكري زئيف شيف (صحيفة هآرتس، 27 يناير 2006) انتقادات مماثلة للنظرة الأميركية، ويذهب إلى أنه:
''في الحديث مع بعض أفراد الإدارة الأميركية المعروفين مثل أنصار الديمقراطية، يتضح أنهم يجدون صعوبة بالغة في تحديد معنى ومفهوم الديمقراطية في الشرق الأوسط· ويعترف هؤلاء بأنه يوجد فهم خاص ومتميز لمفهوم الديمقراطية في كل واحدة من دول الشرق الأوسط، لذلك فإنهم يعملون بجد لصياغة معنى ونسيج خاص للديمقراطية في كل دولة على حدة''·
والواقع أن هذه الفكرة تتناقض جذرياً مع ادعاءات المشروع ''الديمقراطي'' الأميركي عن وجود معايير مطلقة وثابتة يجب أن تتبناها جميع البلدان بغض النظر عن خصوصية ثقافتها أو ظروفها، كما أنها لا يمكن أن تسفر إلا عن ''ديمقراطية انتقائية'' تمنع في أحد البلدان ما تسمح به في بلد آخر، وتوجه كل الإجراءات بصورة تعسفية في الوجهة المحددة سلفاً من جانب الإدارة الأميركية·
ولا تقتصر انتقادات المحللين في الكيان الصهيوني على النظرة الأميركية، بل تمتد إلى سياسات وممارسات هذا الكيان· وفي سياق ''المراجعة الذاتية'' هذه يبرز اتجاهان متباينان أشد التباين، أحدهما يدعو إلى عدم التعامل مطلقاً مع أية سلطة فلسطينية تشارك فيها حركة ''حماس''، والآخر يعترف بأنه ما من سبيل سوى قبول الأمر الواقع والتعامل على أساسه، وإن كان أنصار الاتجاهين يقران بأنه لم يعد بمقدور الكيان الصهيوني أن يستمر في نهجه قبل الانتخابات·
ويعبر منظِّر المستوطنين إسرائيل هاريل (صحيفة هآرتس، 2 فبراير 2006) عن الاتجاه الأول، فيبدأ بالتنديد بالخطوة التي أقدم عليها شارون بالانسحاب من قطاع غزة، معتبراً أنها أعطت زخماً كبيراً لحركة ''حماس'' ورفعت من رصيدها السياسي لدى المواطنين الفلسطينيين، نظراً لدورها الجوهري في عمليات المقاومة، ويمضي قائلاً:
''بينما تغرق تل أبيب في نظريتها الجاهزة حول خضوع الفلسطينيين، حققت ''حماس'' الفوز في معركتين تتمتعان