سادت العالمين العربي والإسلامي موجة عارمة من الغضب نتيجة نشر إحدى الصحف الدانمركية صورا كاريكاتورية مسيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسط جدل لا يكاد ينتهي بين الادعاء بأن ذلك إنما تم في إطار ''حرية التعبير'' المقدسة في أوروبا، والقول بأن التعرض للرسول الكريم، بمثل تلك الرسوم، يعتبر إهانة لأكثر من مليار مسلم· وفي هذا السياق، كنا نتمنى لو أن الاحتجاجات على هذه الرسوم المسيئة بقيت سلمية وحضارية واقتصرت على المسيرات الشعبية والمقاطعة الاقتصادية التي تؤلم الغرب أكثر من أي شيء آخر· ذلك أن الأعمال العنيفة التي طبعت بعض الاحتجاجات هي بدون شك أعمال مؤسفة رغم أن حالة الغضب والاحتقان التي تسود العالمين العربي والإسلامي شديدة ومتراكمة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما أعقبها من تداعيات· وما كاد غضب الجماهير العربية والمسلمة يهدأ نسبيا حتى فوجئنا بإعادة نشرها في عدة صحف غربية، وحتى عربية، ما ينبئ بأن المسألة ليست هفوة إعلامية قام بها صحفي مغمور أعقبها باعتذار عابر، وإنما قد تكون ''حملة هادفة'' بأكثر من معنى، أو مدبرة، الأمر الذي سيؤدي إلى تصاعد حدة الغضب الجماهيري المسلم واتساع نطاقه مع تداعيات قد تحمل معها نتائج وخيمة سواء على الصعيد المباشر أو الاستراتيجي· وهذه هي المحاذير التي يجدر بالعقلاء من الجانبين التنبه إلى خطورتها والعمل عاجلا على تطويقها قبل أن تستفحل·
إن الإساءة للرسول العربي في الدانمرك والنرويج تأتي ضمن سلسلة مواقف عدائية قديمة/ جديدة تجاه المسلمين! وهنا نستذكر أن من أوائل حلقات هذه السلسلة تقديم الدعم الإعلامي والحماية لأشخاص تعمدوا الإساءة لمشاعر ملايين المسلمين مثل سلمان رشدي، ثم استفحلت الظاهرة بعد أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة، مع إذكاء مشاعر العداء ضد المسلمين هناك والنيل من حرياتهم وقضاياهم في غير مكان وما صاحب ذلك من اعتداءات متكررة على المصحف الشريف وتدنيسه· كل هذه الأحداث المتراكمة تذكي حالة الغضب لدى المسلمين· وفي هذا الإطار، فإن موقف قادة الحكومات الأوروبية ''المحايد'' بذريعة حرية التعبير يُكذبه واقع أن القانون الجنائي في دول أوروبا قاطبة يطال كل من ينتقد السياسة الإسرائيلية، مثلما أن اتهامات ''معاداة السامية'' جاهزة لوصف كل من يتجرأ على التشكيك بالمحرقة أو التقليل من ضحاياها· فكلنا نعرف ماذا حصل مع الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه غارودي حيث قامت السلطات في فرنسا (مهد الحرية والمساواة والأخوة) بمصادرة جميع نسخ كتابه المعروف ''الخرافات المؤسسة لدولة إسرائيل'' ومنعت نشره وتوزيعه، ولم تكتف بذلك، بل غرمته وحاصرته· وعلاوة على ذلك قامت الحكومة النمساوية قبل نيّف وعشرين عاما بسجن الكاتب المعروف ديفيد إيرفنغ بتهمة إنكار المحرقة··· وغير ذلك كثير!
إن كل متابع يعرف حالة الهرولة التي أصابت الدول الأوروبية للالتفاف على محاكمة مجرم الحرب أرئيل شارون، فالمس عند هذه الدول بالشخصيات الإسرائيلية أو بإسرائيل، ولو عرضا، يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن التعرض للرسول صلى الله عليه وسلم بطريقة مهينة ووصمه بالإرهاب لا يعتبران جريمة وإنما حرية تعبير! إن إصرار بعض الإعلام الغربي على الصدام مع الدين الإسلامي يؤشر إلى نوايا لا علاقة لها بحرية الرأي التي يستخدمها البعض للتغطية على تعمد الإساءة والسعي إلى تعميمها· كذلك، فإن امتداد الهجمة لتشمل صحفا غربية عديدة يمثل قمة التحدي والاستفزاز، مما يوحي بأن هناك من يعمل لإطلاق شرارة ''صراع الأديان والحضارات'' التي بشر بها دهاقنة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة ومفكروهم قبل سنوات من خلال صموئيل هنتينغتون وصحبه·
وفي هذا النطاق، يخشى من أن ما يجري قد يخرج عن نطاق السيطرة، ولو أن موقف الفاتيكان الحصيف والواضح قد أسهم في التخفيف من حدة الاحتقانات· فقد أعلن الفاتيكان أن الحق في حرية التعبير لا يشمل الحق في إهانة المعتقدات الدينية ودعا إلى توفير جو من الاحترام المتبادل للتعايش بين البشر وتشجيع الســلام·
وقال الكاردينال الإيطالي أكيلي سيلفسترين الذي كان رئيس جمعية الكنائس الشرقية في الفاتيكان إن ''حرية التهكم التي تمس مشاعر الآخرين تتحول إلى إهانة وإن الذي قام برسم الكاريكاتورات المسيئة هو رجل ليس عنده أي إحساس بالمقدسات وقد مس الوتر العميق والحساس جدا لدى مئات الملايين من المسلمين في العالم''· والغريب أن الولايات المتحدة التي كانت ''رائدة'' بإثارة مشاعر العرب والمسلمين، قد سارعت (بسبب تدين نصف مجتمعها) إلى إدانة هذه الرسومات واعتبرتها مسيئة إلى مشاعر مئات الملايين من المسلمين· ورغم اعتراف وزارة الخارجية الأميركية والعديد من المؤسسات الدينية والمسيحية بالإساءة التي لحقت بالمسلمين جراء الرسوم الكاريكاتورية، واصلت بعض الدول الأوروبية استخفافها بمشاعر المسلمين ورفضت الاعتذار عن إعادة نشر بعض صحفها لهذه الرسوم بحجة حرية التعبير، حيث تصدرت المستشارة الألماينة أنجيلا ميركل تلك ال