تحولت الاحتجاجات ضد نشر الرسوم الكرتونية والتي أهانت معظم المسلمين، إلى صراع ثقافي دائر بين الحضارات؛ بين عالم الإسلام من جهة، وعالم الغرب ممثلا في قيمه الأوروبية من جهة أخرى· وكما نعلم فمثل هذا النوع من الحروب ليس فيه رابح وخاسر وإنما جميع أطرافه خاسرة دون استثناء·
ولعل الخطأ الشنيع الذي ارتكبه رسام الكاريكاتير الدانمركي، قد تم إظهاره بل ومضاعفته مرات عديدة، وبشكل متعمد، على أيدي بعض الحكومات والمنظمات العربية والإسلامية ذات الأجندات الخاصة! لكن كيف تم ذلك؟ دعونا نمعن النظر والتفكير في الحقائق التي أمامنا·
إن الرسوم الكرتونية المذكورة قد نشرت أول مرة في شهر سبتمبر الماضي في صحيفة دانمركية صغيرة لا تكاد تكون معروفة خارج الدانمرك والبلدان الاسكندنافية· وأثارت تلك الرسوم في حينها ردود فعل هادئة ومتحضرة عبر عنها السفراء العرب في العاصمة الدانمركية كوبنهاغن· وفي ذلك الوقت أيضا قالت الحكومة الدانمركية إنها لا تستطيع الاعتذار، إذ لا تملك أية سلطة على الصحافة والإعلام· أما الصحيفة ذاتها التي نشرت الرسوم المذكورة، فقد رفضت الاعتذار في البداية، لكنها اعتذرت في النهاية· ومن المهم هنا أن نشير إلى أن تلك الرسوم لم تلفت انتباه أحد تقريبا في أوروبا بل حتى في الدانمرك ذاتها· ولو كان الأمر قد توقف عند هذا الحد لكان قد أصبح مجرد مسألة تشغل عدة آلاف من القراء في دولة أوروبية صغيرة وليس 1,1 مليار مسلم في مختلف أنحاء العالم، كما هو الحال الآن·
وبعد مرور خمسة شهور كاملة على قيام رسام الكرتون الدانمركي بإشعال عود الثقاب الأول، قام أحد كتاب المقالات الأسبوعية العرب، بإشعال نار حريق أكبر من ذلك الثقاب بكثير، وذلك منذ نحو ثلاثة أسابيع عندما كتب مجددا عن الموضوع داعيا المسلمين في أركان المعمورة الأربعة إلى أن يهبوا للانتقام من الإهانة التي لحقت بهم· وإثر ذلك قامت إحدى القنوات التلفزيونية في المنطقة بصب مزيد من الزيت على النار التي أشعلها الكاتب، وذلك عبر تقديم تغطية شاملة وبرامج مباشرة عن الموضوع· وقد حقق الاثنان، الكاتب والقناة التلفزيونية، ما يريدانه بالفعل·
حدث هذا بداية في بلد إسلامي واحد أو بلدين، لكنه جرى في دول إسلامية أخرى عديدة، حيث بدأ الملايين في إحراق الأعلام الدانمركية، ثم انتهوا بإحراق السفارتين النرويجية والدانمركية في دمشق، والسفارة الدانمركية في لبنان الذي قام المتظاهرون فيه بمهاجمة مواطنيهم من المسيحيين العرب أيضا·
إن ما فعله الكاتب العربي والقناة التلفزيونية العربية، هو أنهما قاما بتحويل الرسوم الكرتونية من إهانة للإسلام إلى أخبار··· وعندما تقوم بتحويل شيء ما إلى خبر فإنك تفقد السيطرة عليه· وكان من الطبيعي والحال هكذا أن تدخل العديد من المؤسسات الخبرية في الغرب على الخط، حيث قامت عشرات الصحف في النرويج وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا وأميركا اللاتينية، بل وفي الأردن أيضا، بإعادة نشر الرسوم· كما قامت محطة الـ''بي· بي· سي'' بوضعها على موقعها على الإنترنت، وهناك حوالى 70 موقعا على الانترنت تعرض كلها هذه الرسوم حاليا، وذلك ليراها العالم كله·
بيد أن المنظور الغربي والإسلامي إلى هذه الرسوم يختلفان اختلافا بيناً· فالرسوم التي تصور النبي عيسى والنبي موسى شائعة جدا في الغرب بل وحتى في إسرائيل، وعلاوة على ذلك عرضت أفلام اعتبرت مسيئة للمسيح دون أن يقوم أحد بإحراق مبنى السينما·
والسؤال هنا هو عن مدى مسؤولية الكاتب والقناة اللذين كانا يعرفان تماما مدى الاختلاف في وجهات النظر حول هذا الموضوع بين الدول الإسلامية والغربية، لكن مع ذلك قاما بتحويل رسوم كرتونية لم يلاحظها سوى القليلون، إلى حدث عالمي يثير ذلك القدر من الغضب والاحتجاج·
وإذا ما افترضنا أن شخصا ما قد ارتكب خطيئة فإن من واجب الرجال والنساء العقلاء في المجتمع أن يقوموا بالتعامل معه لا أن يقوموا بتسليمه للغوغاء· وفي الحقيقة أنه يمكن أن يقال إن الملايين التي تظاهرت في شوارع المدن الإسلامية لم تر تلك الرسوم وإنما قرؤوا مقالة الكاتب وشاهدوا تغطية القناة المبالغ فيها للموضوع·
واللافت للنظر أن أميركا وبريطانيا اللتين تعتبران من أكبر أنصار حرية التعبير في العالم، لم تقوما بإعادة نشر الرسوم· وهنا يثور سؤال مهم: هل امتنعت الصحافة الأميركية والبريطانية عن ذلك بدافع المبدأ واحترام الإسلام أم بسبب خوفهما من فقدان الصفقات التجارية العربية والإسلامية؟ أنا شخصيا أراهن على أنهما قد فعلا ذلك بدافع النفاق التجاري·
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الجدل قد بدأ ضمن إطار محاولة حسنة النية لكتابة كتاب موجه للأطفال عن حياة النبي العظيم محمد وذلك بهدف نشر التسامح الديني· لكن مؤلف الكتاب واجه مشكلة منع تصوير النبي بأي وسيلة عندما كان يبحث عن رسام يضع صور الكتاب· ولم يستطع أن يجد من يقوم بذلك، حيث إن الفنانين الدانمركيين، على ما يبدو، كانوا يخشون على حياتهم بدليل أنهم عندما رفضوا رسم الرسوم