اعتقدت دائما أن ديك تشيني يأخذ مسألة الأمن القومي على محمل الجد· لكنني تخليت عن ذلك الاعتقاد عندما أفصح عن موقفه القائل إنه لا يوجد من حل أمام أميركا سوى الاستمرار في الاعتماد على النفط الخام، وأيضاً عندما تأكدت من أن مسألة ترشيد استهلاك الطاقة بالنسبة له ليست سوى هواية أخرى من هوايات الليبراليين التي لن تفيد شيئا في حشد البلاد واستنفار قواها من أجل الحد من استهلاكنا المفرط للنفط· بل أكثر من ذلك، أضحى تشيني عقبة حقيقية تعرقل الجهود الرامية إلى التقليل من اعتماد أميركا على النفط· وإذا كان تشيني يقدم كل ذلك، وهو متلفع برداء الرجل القوي ذي النظرة الواقعية اتجاه العالم، فإنه في الواقع يتبنى نظرة ساذجة وجاهلة ببواطن الأمور· نظرة تنتقص من قدرات الأميركيين، وتفشل في التقاط الأهمية الفعلية التي باتت تكتسيها مسألة الطاقة في السياسة الخارجية لهذا البلد متجاوزة بذلك قضية العراق·
وفي حال أصر تشيني على تجاهل مسألة الطاقة بالنسبة لأميركا، فإنه سيضمن إهدار السنوات الثلاث المتبقية من الفترة الرئاسية لجورج بوش، كما سيضمن إضاعة سنوات أخرى على البلاد· وللتأكد من مدى استخفاف تشيني بمسألة ترشيد استهلاك الطاقة اسمعوا ما قاله في لقاء تلفزيوني عندما سألته لورا إنجرهام عن موقفه من دعوتي الملحة إلى فرض ضريبة على البنزين تدفع الأميركيين إلى استعمال سيارات أقل استهلاكا للوقود، وتسهم في خفض اعتمادنا على الطاقة: ''حسنا، لا أتفق مع ذلك'' رد تشيني على السؤال مضيفا: ''لدي أنا والرئيس قناعة راسخة مفادها أنه يجب على الحكومة أن تنهض بدورها فيما يخص دعم البحث التكنولوجي، وتشجيع طرق جديدة لتوليد الطاقة، لكننا في المقابل نؤمن بالسوق، ونتهيب كثيرا من تدخل الحكومة في بعض التفاصيل كأن تملي على الأميركيين أسلوب حياتهم الخاصة· ومن هذا المنطلق نعارض أي تدخل حكومي لتوجيه الاقتصاد أو التحكم في مساره، لأن قواعد السوق هي من تقوم بذلك''· لكن ما هذا الذي يتفوه به تشيني؟ ألا يعلم أن سوق النفط العالمي هو كل شيء عدا كونه حرا؟ ومن أين تأتيه حرية السوق وهو خاضع لأكبر كارتيل في العالم متمثلا في ''منظمة الدول المصدرة للبترول'' (أوبك) التي تتحكم في مستويات الإنتاج وتحدد الأسعار حسب حاجيات بعض أسوأ الأنظمة في العالم· ونحن بعدم تحركنا نترك تلك الأنظمة تقرر الأسعار وتجني الأرباح الطائلة·
ومن ناحية أخرى، لماذا لا يجد تشيني أدنى غضاضة في التأثير على آليات السوق عندما يتعلق الأمر بخفض الحكومة للضرائب لتشجيع الاستهلاك، بينما تستنكف الحكومة عن فرض ضريبة على البنزين لحث المستهلكين على الحفاظ على الطاقة كجزء أساسي من المصلحة القومية العليا· هذا ولست الوحيد الذي يطالب بذلك، فقد أعرب عن موقف مماثل جريجوري مانكيو، من جامعة هارفارد الذي تقاعد مؤخرا من منصبه كمدير لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بوش، حيث كتب على صفحات ''وول ستريت جورنال'' في 3 يناير أنه ''بالرغم من أن الضرائب هي محل كراهية من قبل الجميع، إلا أن الحكومة في حاجة لتمويل عملياتها، وهناك ضرائب ثبتت فائدتها· وفي هذا الصدد أقول للشعب الأميركي إن فرض ضريبة على البنزين هو أفضل للمحافظة على الطاقة من القواعد الصارمة التي تفرض على منتجي السيارات للتقليل من استهلاكها للوقود· هذه الضريبة التي لن تشجع الناس فقط على شراء سيارات تستهلك أقل، بل ستدفعهم إلى الحد من استعمالها''·
وفي كثير من الأحيان يوصف تشيني بأنه الرجل القوي غير المهادن، لكن إلى أي حد هو فعلا كذلك؟ فنحن لدينا ضريبة صغيرة جدا على البنزين، في حين تفرض أوروبا واليابان من دولارين إلى ثلاثة دولارات على الجالون الواحد، أو أكثر· وبالطبع تخصص تلك الموارد لبناء المدارس والطرق السيارة، فضلا عن تحسين نظام الرعاية الصحية لمواطنيهم· لكن عندما يتعلق الأمر بحجم الإنفاق العسكري فإنهم ينفقون أقل منا بكثير· وبناء عليه نطرح السؤال التالي: من يحمي إمدادات تلك الدول من نفط الشرق الأوسط؟ إنه دافع الضرائب الأميركي، فنحن نخصص كل سنة ما يقارب 600 مليار دولار لموازنة الدفاع يوجه جزء كبير منها إلى الخليج العربي· كما أننا ننفق على دفاع الآخرين ليس من ضريبة نفرضها على البنزين، بل من الضرائب المفروضة على الدخل والتأمين الاجتماعي· أجل، إننا نستنزف رواتب الأميركيين وصندوق التأمين الاجتماعي المخصص لأبنائهم لكي يتمكن الأوروبيون واليابانيون من استيراد النفط الخليجي، وبعد ذلك يضعون عليه رسوما توجه لتلبية حاجياتهم الداخلية· ونظرا للضرائب المرتفعة التي يفرضونها على استهلاك الوقود، فإنهم يتغلبون أيضا على شركاتنا في مجال إنتاج سيارات قليلة الاستهلاك·
وأخيرا إذا كان تشيني يؤمن حقا بآليات السوق، فلماذا نص قانون الطاقة لعام 2005 على منح إعفاءات ضريبية لشركات النفط تقدر بملياري دولار؟ ولماذا تسمح حكومته بفرض 54 سنتا كضريبة على الجالون الواحد من الإيثانول المستورد -وهو وقود يستخرج من السكر والذرة- حتى لا تنافس و