منذ أسبوعين كتبت مقالاً عن مدن ما بعد الحداثة الخليجية وأبرزت إحدى أهم ظواهرها وتتمثل في بناء جنوني لمجمعات سكنية فارهة تفصل ساكنيها انفصالاً شبه كلي عن حياة وساكني المدن التي تحيط بهم وتسلّمهم لإملاءات رأسمالية الخيال والوهم الجديدة:
فلا فوضى ولا زحمة سير ولا لصوص منازل ولا اختلاط أطفال ساكنيها بأطفال الطبقات المتواضعة في مدرسة أو أماكن لهو ولا مشاهدة لمتسولين من الفقراء والمهمشين كل ذلك يحدث خارج أسوار المجمعات، بينما ينعم ساكنوها بالدفء والطمأنينة والسعادة، أي بأجواء الوهم بأن مدينتهم بخير ورخاء·
غير أن مخطّطي ومديري مدن الخليج الكبرى سيذهبون إلى أكثر من ذلك في تبنّيهم لصرعات رأسمالية الوهم الجديدة:
1- هناك أولاً تحرير المدينة من محدّدات المكان والزمان والثقافة· فالمدن تتوسع وتتوسّع إلى ما لا نهاية ذلك أن امتداداتها تقررها حاجات الأعمال ومضاربات الأراضي وليس حاجات ساكنيها من المواطنين· ومعالم المدن لا ترتبط بتاريخ تلك المدن وثقافة أهلها وإنما هي تقليد لمعالم مدن الآخرين: قنوات مائية اصطناعية مثل ما في مدينة البندقية، وبروج ناطحات سحاب مثل ما في نيويورك، ومجمعات لهو مثل ما في ديزني لاند، ومجمعات تجارية ومالية وفندقية مثل ما في فرانكفورت وهونج كونج ولندن وميلانو، ووسائل رياضية لأنواع من الرياضة لا يوجد عشرة من ساكني المدن المواطنين يمارسونها··· إلخ·· وشيئاً فشياً تخلو أواسط المدن من الحياة والفرح ويخيّم على ليلها الظلام والسكون المرعب لتصبح تماماً كما هو الحال في وسط كبريات عواصم الغرب الرأسمالي العفنة·
2- أما المظهر الثاني الملفت في تخطيط وبناء تلك المدن فهو الاهتمام بكل ما سيريح زائريها وليس ساكنيها· واقتصاد التسلية كما هو معروف يمثل روح وعقل رأسمالية الخيال والوهم· ولنتذكر أن صناعة التسلية الأميركية أصبحت أكبر حجماً من صناعة السلاح وأنها ستقود اقتصاد العالم في المستقبل المنظور·
من هنا، وكمقلدين، نبني مدن التسلية بالتركيز على أماكن التسكُّع وهدر الوقت، بتطوير هائل لأماكن اللقاءات للأكل وللشراب وتدخين النارجيلة وممارسة الثرثرة· ونعزّز كل ذلك عبر تلفزيون يعرض ليل نهار برامج مسطحة ضحلة في الغناء والمسلسلات والمسرحيات وثرثرات النساء والرجال، وعبر صحف تخصّص للرياضة أضعاف الصفحات المخصّصة للثقافة، وعبر إهمال للمسرح النقدي غير الهزلي ولثقافة الطفل ولمراكز النشر والدراسات الأهلية الجادة· وفي كل ذلك يخاطب عقل ووجدان ورغبات وأحلام الطفل في الإنسان العربي الخليجي ليبقى هذا الإنسان في مراحل المراهقة في كل شيء في حياته وليكره الالتزام بمواقف مثل الكبار خصوصاً في السياسة وأماكن العمل والدراسة واقتصاد الإنتاج لكن ما لا يلاحظه بعض المسؤولين عندنا أن اقتصاد التسلية في مدن الآخرين يسنده بقوة اقتصاد إنتاجي زراعي صناعي تكنولوجي بينما نبني اقتصاد التسلية عندنا على حساب التنمية الإنتاجية معتمدين على توفر ثروة هائلة مؤقتة ستنضب خلال بضعة عقود، كما أن الانغماس في التسلية الآنيّة يبني حاضراً منقطعاً عن الماضي، (وهو أمر خطير في حياة أمة لا تزال في طور التفتيش في ماضيها عن ذاتها) كما يولّد انقطاعاً عن التفكير في المستقبل (وهو أمر كارثي في حياة أمة تعيش كل مكونات التخلف)·
إن هدف رأسمالية الوهم هو أن يعيش الناس في عالم تسلية دائمة تبعدهم عن الملل والضجر وعن سويعات صفاء الذهن التي قد تقودهم إلى التفكير في تصحيح مناهج حياتهم الخاطئة· ومع الأسف فإننا بإصرارنا على بناء مدن عيش الأوهام والتسلية الطاغية على ما عداها نساهم في إنجاح نظام اقتصادي أصبح منهكاً لنمط عيش الإنسانية كلها·