في تقديرنا أن التحليل النقدي الدقيق لتطورات الأزمة التي أشعلتها جريدة ''يولاند بوسطن'' الدنماركية وردود الفعل العربية والإسلامية عليها، تمثل حالة نموذجية من حالات الصراع الثقافي، ولا نقول صراع الحضارات·
وقد سبق لنا أن قررنا أننا نفضل أن نتحدث عن حوار الثقافات وليس عن حوار الحضارات، ما دمنا نعيش في ظل حضارة واحدة، هي الحضارة العلمية والتكنولوجية والاتصالية، التي تنعم كل شعوب الأرض بثمراتها وإنجازاتها التي أسهمت في رفع نوعية الحياة للبشر· غير أن ذلك لا ينفي أن هناك في ظل التنوع البشري الخلاق ثقافات متعددة· وقلنا من قبل إن الذي يميز ثقافة عن أخرى هو رؤيتها المحددة للعالم، والتي هي بحسب التعريف الفلسفي ''النظرة للكون والمجتمع والإنسان''·
ومعنى ذلك أن لكل ثقافة الحق، بحكم تاريخها الاجتماعي الفريد، أن تكون لها رؤية للعالم تختلف عن الثقافات الأخرى· ومن المؤكد أن رؤية العالم في الثقافة العربية الإسلامية -تختلف في جوانب منها- مع رؤية العالم للثقافة الأوروبية أو الأميركية، أو الآسيوية·
وليس معنى ذلك أن الخصوصية الثقافية للمجتمعات المختلفة بنية مغلقة تشكلت منذ عصور قديمة ولم تتغير مكوناتها عبر التاريخ، بل إن مفهومنا للخصوصية الثقافية أنها نسق مفتوح، يأخذ من ثقافات الغير بغير عُقد، ويعطي ثقافات الغير أيضاً· هكذا كانت العلاقات التاريخية بين الثقافة الإسلامية والثقافة الأوروبية· أخذ المفكرون الإسلاميون من الثقافة اليونانية في طور تاريخي محدد من خلال الترجمة، ولكنهم أعطوا الكثير للثقافة الغربية في مرحلة من مراحل تخلفها·
غير أن هذا الدرس التاريخي البالغ الأهمية في مجال الحوار الايجابي للثقافات، تغافلت عنه قوى أوروبية وإسلامية للأسف الشديد·
في أوروبا تحت سطوة ''المركزية الأوروبية'' التي كانت تزعم أن القيم الأوروبية هي محك الحكم على التقدم والتخلف، تمت الاستهانة بـ''إنجازات الشعوب العربية والإسلامية''· ووصل الأمر بالبرلمان الفرنسي إلى أن يصدر قانوناً ينص، في مادته الرابعة، على تمجيد مرحلة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر! ولما اشتعلت المعركة السياسية بين الجزائر وفرنسا بسبب هذا القانون، وامتناع فرنسا عن الاعتذار التاريخي لشعب الجزائر عن جرائم الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، اضطر رئيس الجمهورية الفرنسي جاك شيراك إلى أن يتقدم للبرلمان بطلب لإلغاء هذه المادة· وهكذا وصلت العنجهية الفرنسية المستقاة من قيم المركزية الأوروبية إلى مداها، إلى درجة تمجيد الاستعمار ونحن في بداية الألفية الثالثة، حيث تمت إدانة كل صور الاستعمار السابقة·
ومن ناحية أخرى أدى التطرف الفكري الإسلامي لدى بعض الجماعات الإسلامية المتشددة إلى اعتبار الثقافة الأوروبية ''كافرة وملحدة''، ولا ينبغي الاقتباس الفكري من أفكارها وقيمها ومؤسساتها، لأن في ذلك نوعاً من أنواع الغزو الفكري أو التبعية الثقافية·
غير أن كل هذه الجوانب تمت إثارتها في حالة من حالات الصراع الثقافي الحادة بين الدنمارك وأوروبا والعالم الإسلامي·
فقد ادعت الصحيفة الدانمركية التي نشرت صوراً مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك من حقها، باعتبار ذلك من باب حرية التعبير السائدة في الدنمارك والتي يحميها القانون، وعلى ذلك ليس من حق المسلمين الاحتجاج·
وحين طلب من رئيس الوزراء الدنماركي أن تصدر الحكومة اعتذاراً رفض بشدة، زاعماً أيضاً أن ما نشرته الصحيفة هو من باب حرية التعبير، وأنه لا ولاية للحكومة على الصحافة· وبعد أن عبرت الشعوب الإسلامية عن غضبها الشديد اضطرت الجريدة الدنماركية للاعتذار، فنشرت على موقعها في الإنترنت اعتذاراً باللغة العربية، كما صدر تصريح عن الحكومة الدنماركية يحمل تبريراً واعتذاراً غير مباشر في الوقت نفسه·
وتصاعدت الأزمة من بعد حين نشرت جريدة ''فرانس سوار'' الفرنسية نماذج من الرسوم لتعضيد موقف الجريدة الدانمركية من حرية التعبير كما زعمت، وأن النشر ليس بغرض الإساءة إلى المسلمين· وتلتها صحف أوروبية أخرى، وكأنها حملة لشد أزر الصحيفة الدنماركية في معركة وهمية عن حرية التعبير!
وفي تقديرنا أن الادعاء الأوروبي بأن حرية التعبير التي تمارسها الدول الأوروبية العلمانية فيه تشويه شديد للعلمانية· ولم يقل أحد من قبل إن العلمانية -التي في نظريتها الأصلية- إن كانت تفصل بين الدين والدولة لا تفصل بين الدين والمجتمع، ولا تبيح ازدراء الأديان، بل إنها كما هو الحال في المجتمع الفرنسي تحترم الأديان كافة·
ومن ناحية أخرى الادعاء بأن حرية التعبير مطلقة ومن حق أي صحفي أو كاتب في الدنمارك أو غيرها من الدول الأوروبية أن يزدري الأديان علناً، أو أن يسخر من الإسلام كدين، أو من رموزه الدينية وأولها رسول الإسلام، فهذه في الحقيقة دعاوى باطلة لا أساس لها· وإذا كانوا في فرنسا كما ادعت جريدة ''فرانس سوار'' -وهى بالمناسبة من جرائد الفضائح في فرنسا- من حقهم أن يسخروا من أي شيء، فليس من حقهم أن يفرضوا عاداتهم الفكرية أو قيمهم