ما كنت أخشاه في مقالة الأسبوع الفائت تحقق على أرض الواقع· ما كنت لا أطمئن إليه من حراك غوغائي مندفع مدمر أصبح وقوداً يومياً، تتلقفه وكالات الأنباء العالمية، وتنقله عدسات التلفزة الدولية مذيلاً بتعليقات تشي بهمجية تحرك الشارع الإسلامي تجاه قضية، نؤكد من خلالها بأن إحدى وسائل الإعلام الدنماركية، قد ارتكبت فيها خطيئة كبرى، رغم كل تبريرات حرية الصحافة وحرية التعبير وفق ثقافة تربى عليها الإنسان الأوروبي، ثقافة تتيح له قدرات كبيرة للتعبير عن أفكاره، وانتقاد كل ما يراه مخالفاً لحرية التعبير هذه·
الصحافة الدنماركية تجاوزت الحد الأخلاقي بنشرها تلك الرسوم· ومن حقنا أن ننتقد الإعلام الدنماركي، ومن حقنا وفق مرجعياتنا الدينية والقيمية أن نطالب الآخرين بعدم المساس بثوابتنا، ولكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً في خطابنا الإعلامي الإسلامي والعربي مرتبطاً بماذا فعلنا طوال قرون، للحد من تراكم ثقافة التنميط، التي زُرعت في وجدان الإنسان الأوروبي والأميركي عن الإسلام كرسالة، وعن المسلمين كصُناع حضارة، وكبشر قادرين على العيش مع الآخرين على هذا الكوكب؟
ماذا فعلت حكومات عربية، عندما حولت الوطن الجميل إلى سجون مرعبة، وقذفت بملايين المواطنين العرب والمسلمين على موانئ الهجرة؟ كل هؤلاء الذين هربوا من المقابر الجماعية والسجون والانغلاق، لم يجدوا صدراً أرحب من صدر أوروبا وأميركا وكندا وغيرها، وكانت الدنمارك واحدة من تلك المحطات، التي حظي فيها المقهورون المسلمون والعرب بالرعاية والحماية والحياة الحرة الكريمة، بينما كانوا مطاردين في أوطانهم، وغدت أوروبا مكاناً لممارسة الأنشطة السياسية والترويج للأفكار· واليوم نجد غلاة المتطرفين وقيادات التيارات الإسلامية يتمترسون خلف قوانين حماية الحقوق المدنية الأوروبية، ويتمتعون بمساحـــات واسعـــة للتحــرك وإصــدار الصحف، وجمع التبرعات ومناكفة الأنظمة العربية·
يبدو أن مشروع الدنمارك للتقارب مع العالم العربي والإسلامي قد مني بنكسة كبيرة جراء هذا التصرف الأحمق، الذي ارتكبته صحيفة هامشية، ولكن أيحق لنا أن نحاسب كامل المجتمع الدنماركي بجريرة رسام كاريكاتير؟
خطر هذا السؤال الصعب على الخاطر، وأنا استرجع التداعيات المؤسفة التي حركت الشارع العربي للاندفاع بغوغائية لإحراق السفارات ومقار القناصل الدنماركية والنرويجية·
الرسالة المغلوطة أدت مفعولها السحري، لتأكيد تلك الصورة المنطبقة في وعي ولاوعي الإنسان الأوروبي، فها هم المتهورون يحرقون مقر السفارة، وها هم الإرهابيون يحرقون الكنيسة ويوجهون دعواتهم لإهدار دم رسام الكاريكاتير·
الدنمارك كانت على وشك إطلاق حملة أوروبية للتقارب وتجسير العلاقات الثقافية، لإيجاد أرضية أكثر صلابة للفهم المشترك بين الغرب والعالم الإسلامي، من خلال دعوة أطياف متعددة من مكونات المجتمعات العربية والإسلامية لشرح الرؤى الغامضة، وما التبس على الفهم الأوروبي في علاقاته مع الإسلام ومع المسلمين، الذين أصبحوا مكوناً أسياسياً في نسيج المجتمعات الأوروبية، فلم يعد منظر المرأة المسلمة المحجبة يثير الاستغراب، ولم يعد منظر الرجال بجلابيبهم القصيرة ولحاهم الكثة مصدراً للإزعاج، إلا بعد أحداث برجي التجارة في نيويورك· لقد أُهدرت الفرصة من الجانبين: الدنماركيون بنشرهم تلك الرسوم المشينة، والمسلمون بتحركهم العاطفي المندفع وفق الأهواء ووفق دافعية الشحن بشهوة الانتقام من كل ما هو غربي، وكل ما هو مختلف، تعبيراً عن حالة قهر وإحساس بالظلم، تقولبت في الضمير الجمعي العربي والمسلم منذ حقبة الاستعمار الأوروبي· حالة الإحباط هذه، سيرت جموع الحانقين المندفعين، دون وعي لإحراق الأمكنة وتشويه صورة الإسلام·
الخشية من تحول الخطاب إلى ردح عاطفي، أصبحت حقيقة واقعة، فها هي فضائيات بعينها، وما أكثرها، تعيد إنتاج ذات الخطاب التحريضي العاطفي، لتحرك به الجماهير الهائجة وتدفعها لارتكاب ممارسات لا تخدم الإسلام·
كاد الإنسان العربي والمسلم يوصل رسالة لا تقبل اللبس لصانع القرار السياسي والإعلامي، مفادها أن الإنسان المسلم والعربي لديه قدرات كامنة للتعبير عن رفضه المطلق، لكل ما قد يسيء لمقدساته، واستلم الطرف الدنماركي الرسالة، وتقبل ما جاء فيها وتعامل معها باعتبارها إحدى وسائل التعبير المتاحة للتعبير عن حرية الرأي، وكادت الرسالة أن تكون أكثر فاعلية وتأثيراً وتكــون ضاغطـــة باتجــــاه إعــــادة الحسابـــات، وإعـــادة تأطير فكـــرة الحرية الإعلامية، بما لا يتعارض وخصوصيات كــــل ملة وعــــرق، ولكننا وبغوغائية التحرك أفســدنا كل قدرات تلك القــــوة الدافعـــــة نحـــو تحويل توجهـــات الـــرأي العام الأوروبي لمساندة حقنا في الاحتجاج، وحقنا في حماية الدين وعدم المساس بشخص الرسول الكريم وغدت سحب دخان إحراق المقار الدبلوماسية، وصمة جديدة، تؤكد عدم قدرتنا على التواصل مع الآخر·
بجريرة رسم كاريكاتوري حاكمنا الشعب والحكومة الدنماركية، وربما شعوبا أوروبية أخر