يوم أمس الثلاثاء دخلت على موقع صحيفة ''يولاند بوستن'' الدنماركية التي نشرت قبل أربعة أشهر الرسوم الكاريكاتورية المعروفة الآن عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام· بدا لي مباشرة أن هناك تغيرا ما في دعوة الصحيفة الملحة والبارزة للعرب والمسلمين، وباللغتين العربية والإنجليزية، لقراءة رسالة اعتذار في الداخل عما تسبب به نشر تلك الرسومات من إساءة للمسلمين· احتفظت الصحيفة، كما يبدو لي (لم أتابع الصحيفة منذ بداية الأزمة) بهذه الدعوة لفترة ليست بالقصيرة في المكان نفسه، أعلى الصفحة الأولى· اللافت في صيغة الاعتذار التي رأيتها في عدد أمس أنها اختلفت عما كانت عليه يوم الأحد الذي قبله، وأعني تحديدا الصيغة العربية للاعتذار· في صيغة الأحد لم ترد كلمة ''الاعتذار''· بدلا من ذلك تم اللجوء إلى كلمات مثل ''نأسف''، ''ويؤسفنا''، أو ''نعبر عن بالغ أسفنا'' لما حدث· الصيغة الثانية جاءت مباشرة تماما، وتمثل اعتذارا واضحا وأسفا حقيقيا، ليس على نشر الرسومات، ولكن على ما تسبب به هذا النشر من إساءة للمسلمين· وقد تم استخدام كلمة الاعتذار ثلاث مرات· رسالة الاعتذار كانت باسم رئيس تحرير الصحيفة، وتوقيعه·
جاءت صيغ الاعتذار كما يلي: في البداية قالت الرسالة، ''نحن نعتذر على سوء التفاهم الكبير الذي حصل حول الرسومات··· وأدى إلى نمو مشاعر العداء للدنمارك والدنماركيين···''· وفي سياق تأكيد الصحيفة على الهدف الرئيس من نشرها للرسومات تقول: ''لكن هذه الرسومات أساءت كما يبدو إلى ملايين المسلمين في كل أنحاء العالم، ولذلك نحن الآن نقوم بتقديم اعتذارنا وأسفنا العميق لما حدث، لأن هذا بعيد كل البعد عن قصد الصحيفة···''· ويختم رئيس التحرير الرسالة بالقول، ''أخيرا، دعوني، وعلى لسان يولاند بوستن أعلن اعتذاري عما حدث··· واستنكاري الشديد لأية خطوة تستهدف النيل من أديان، وقوميات أو شعوب معينة· وكلي أمل بأن أكون بهذا قد أزلت سوء التفاهم···''·
هل هذا يكفي؟ نعم يكفي، خاصة وأن الصحيفة اتبعت في تغطيتها للأزمة إسلوبا هادئا، ومحايدا· لم تلجأ إلى صياغة أخبار المقاطعة العربية، والمظاهرات، وحرق السفارات بإسلوب يهدف لتهييج الشعب الدنماركي ضد العرب والمسلمين· على العكس ابتعدت عن ذلك بشكل واضح ومقصود· ولعل هذا كان أحد الأسباب في أن بعضا من آلاف الدنمركيين الذين تظاهروا في كوبنهاجن الأسبوع الماضي، رفعوا لافتات كتب عليها كلمة (عززدس) أو (نأسف)، تعبيرا عن اعتذار شعبي لنشر الرسومات· هذه إيماءة عبر من خلالها الشعب الدنماركي عن تفهمه للألم الذي شعرت به الشعوب الإسلامية، وهي إيماءة تستحق التقدير·
ربما قيل إن اعتذار الصحيفة ليس اعتذارا عن نشر الرسومات، وإنما عن سوء الفهم الذي حصل لدى المسلمين بسبب الرسومات، وإن الصحيفة بهذا التمييز تصر على أن نشرها للرسومات كان أمرا لا غبار عليه، وليس فيه ما يدعو للاعتذار· هنا تتداخل مجموعة من العوامل: الاختلافات الثقافية، والتباينات السياسية، والتحيزات الأيديولوجية بين المسلمين من ناحية، والأوروبيين- الدنماركيين في هذه الحالة- من ناحية أخرى· الإصرار على أن يأتــي اعتـــذار الصحيفـــة عن نشر الرسومـــات تحديـــدا فيه تجــاوز للحدود الثقافية بين المجتمعات، وما تنطوي عليــــــــه مـــــن اختلافــــات فـــــي القـــيم والمعايـــــير وتباينـــــــــــات فــــــــــــــــــي الــــــرؤى والقناعـــات·
يؤمن الأوروبيون، ومنهم الدنماركيون، بالعلمانية وبحرية التعبير· والدليل أن السيد المسيح نفسه ليس استثناء هنا· حيث تم إخراج افلام سينمائية عنه ظهر فيها كبشر عادي، وبما يتنافى بشكل صارخ مع صفته الإلهية التي يؤمن بها المسيحيون· وكانت هناك رسومات للمسيح بأوضاع لا تتناسب مع صفته كنبي مرسل، وشبيهة في إساءتها لما حصل في الرسومات التي نشرتها صحيفة ''يولاند بوستن''· هذه بعض أمثلة على طبيعة الثقافة الأوروبية، وعلى ما ترتكز عليه من قيم ومفاهيم تختلف تماما عما كانت عليه في العصور الوسطى، وماهي عليه الثقافة العربية الإسلامية في وقتنا الحاضر· وهذا اختلاف يجب احترامه، لأن الاختلاف بين الثقافات هو أحد أهم نواميس الوجود الإنساني· ومن دون هذا الاحترام لن يكون هناك مجال لحوار الثقافات ولا للتواصل الإنساني·
من هذه الزاوية، الأرجح أن الإصرار على أن يأتي اعتذار الصحيفة الدنماركية عن عملية نشر الصور ذاتها، وليس عما تسببت به وحسب، سيفهم على أنه محاولة لفرض قيم ثقافية تخص العرب والمسلمين على الدنماركيين· وهنا قد تصل القضية، أو الأزمة إلى طريق مسدود· ليس المطلوب أن يقتنع أحد الطرفين بمقدسات ومحرمات الطرف الآخر· المطلوب هو أن يحترم كل طرف ما لدى الطرف الآخر من هذه المقدسات والمحرمات· وإذا تحقق هذا، فالأغلب أن صحيفة ''يولاند بوستن'' وغيرها من الصحف الأوروبية، والغربية عموما لن تقدم مستقبلا، وبعد كل ما حدث، على نشر رسومات أو صور مسيئة للإسلام، أو لأي من رموز الإسلام· والجدير في هذا السياق ملاحظة أن كث