مهما اختلف البشر وتباينت أديانهم ومناهجهم الفكرية وسلوكياتهم الاجتماعية وأنظمتهم السياسية فإن الواجب على البشرية أن تقنن لنفسها قواعد أخلاقية إنسانية متعالية، يتمّ من خلالها احترام معتقدات الآخرين الدينية وعدم تناولها بالسخرية والاستهزاء·
لا يعني هذا إلغاء الحوارات بين الأديان والمناظرات بين الأفكار وتضارب المصالح بين السياسات فذلك غير ممكن وغير مجد في الوقت نفسه، فكل دين من الأديان يقدّم نفسه لأتباعه وللآخرين بأنه الدين الحق وبأنه يمثل إرادة الله، ومن حق الآخرين أن يرفضوا ذلك ويحاولوا نقضه فكريا وعلميا، ولكن ليس من حق أحد أن يستهزئ ويسخر بمقدسات المخالفين وعقائدهم الراسخة بأسلوب رخيص وسخيف·
هكذا بدأت القصة مع الصحيفة الدنماركية التي نشرت صورا سخيفة ومقرفة يستهزئ فيها راسمها بشخصية الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان ذلك قبل عدة أشهر ولكن ثائرة المسلمين لم تثر إلا مؤخرا، فقامت قيامة الشعوب الإسلامية ولم تقعد، وتحرّك المتحركون وخطب الخطباء وكتب الأدباء وتكلم العلماء واتخذ السياسيون مواقف صارمة، وبالجملة فقد أصبح الجوّ مشحونا كما لم يكن من قبل وبرغم ردود الفعل الاعتذارية والتأسفية التي خرجت من الدنمارك فإن البعض لم يقتنع بعد ولم تهدأ ثائرته·
ما يحتاج للتأكيد عليه هنا هو أن أسلوب مقاطعة البضائع أسلوب حضاري جميل، وينم عن نجاح الضغوط الدولية والمحلية على جماعات الإسلام السياسي والمتدينين عموما لتغيير أساليبهم في التعبير عن مواقفهم بما يتماشى مع لغة العصر ومتطلبات اللحظة الراهنة، ومن الطبيعي في مرحلة الانتقال من التعبير العنيف الذي يتسم بلغة التكفير والعنف والقتل إلى لغة حديثة سيحمل معه بعض الرواسب ومن ذلك فتوى أصدرها ناظم المسباح أحد رموز تيار السلفية التراثية في الكويت، حيث تناقلت بعض وسائل الإعلام نهاية الأسبوع الماضي فتوى للشيخ الكويتي ناظم المسباح يفتي فيها بهدر دم رسّام الكاريكاتير الدنماركي الذي رسم رسوما بذيئة يستهزئ فيها بشخص الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام·
الشيخ المسباح -للعلم- هو صاحب الفتوى الشهيرة بتكفير من يساوي بين الرجل والمرأة ودار بينه وبين الشيخ محمد الأشقر سجال طويل حول مسألة تولي المرأة للولاية العامة وحقها في التصويت والترشح لمجلس النوّاب·
إن فتوى الشيخ المسباح تستند بدون شك إلى إرث سلفي كتب في حقب تاريخية قديمة، ويمثل ذلك الإرث كتاب شهير لابن تيمية أسماه ''الصارم المسلول على شاتم الرسول''·
لكننا عندما نأتي للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه نجد أنه تعامل بسياسة شرعية مبنية على المصلحة فيما يتعلّق بشاتميه، فمرة أمر باغتيال شاتميه ككعب بن الأشرف وسلاّم بن أبي الحقيق وخالد بن سفيان الهذلي وغيرهم، ومرة ترك عبدالله بن أبي بن سلول المعروف بعدائه للرسول صلى الله عليه وسلّم والذي قال ''لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل'' يعرّض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك ذا الخويصرة التميمي الذي قال له: ''اعدلْ فإنك لم تعدل''، ولم يقتل من قال له يقولون إنك تنهى عن الغي وتستخلي به، ولم يقتل القائل له إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي ''إن كان ابن عمّتك'' كما في زاد المعاد لابن القيم·
فمثل هذه الفتوى العجيبة من الشيخ المسباح تأتي خارج السياق الحضاري الذي بدأت الشعوب الإسلامية تركب على قضبانه بعيدا عن ''القاعدة'' والإرهابيين وأساليب التفجير والتدمير وبعثرة الدماء والأشلاء، لتصب بقصد أو بدون قصد في سياق إعادة أساليب الرفض والاستنكار إلى الوحشية والدموية·
ما يستحق الوقوف عنده قليلا أنه مع انتشار ونجاح حملة مقاطعة البضائع الدنماركية تنشر الصحف يوم الأربعاء الماضي عن حدثين مهمين في دلالتهما المتزامنة مع هذه الحملة، الحدث الأول في مدينة مكة المكرمة حيث جاء فيه بحسب موقع العربية نت: ''اضطرت الجهات الأمنية السعودية في مدينة مكة المكرمة إلى التدخل لإنهاء حالة الفوضى التي سادت خارج سوق الضيافة صباح الأربعاء بعد تجمهر حوالى 200 شاب لا تزيد أعمارهم على 20 عاما أمام السوق ومضايقة النساء والفتيات الخارجات من السوق والقادمات إليه، وإزعاجهن بسحب عباءاتهن وحقائبهن من أيديهن· ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، إذ قام البعض منهم بفتح أبواب السيارات التي تركبها نساء وفتيات، ومعاكستهن بكلمات غير لائقة، وبعضها يخدش الحياء''·
والحدث الثاني كما جاء في جريدة الوفاق الإلكترونية يقول: ''شهدت الأسواق الكبرى في العاصمة السعودية الرياض بعد ظهر -الأربعاء الماضي- عقب انتهاء اختبارات نصف العام الدراسي حالة من الازدحام الشديد، وتكدس الشباب والفتيات داخل الأسواق، وحالات عديدة من التحرشات والمناوشات بين مجموعات شبابية في محاولة لجذب انتباه الفتيات·· وعلى الجانب الآخر شوهدت العديد من الفتيات وهن يرتدين ملابس وأزياء متنوعة، وارتفاع أصواتهن بالضحكات والأغاني، الأمر الذي أدى إلى انفلات