تساءلت مجلة ''شؤون عربية''، الصادرة عن جامعة الدول العربية، في آخر عدد لها في شتاء العام الماضي: هل سقطت العروبة من حسابات السياسة العربية؟ وتولى أربعة كتاب ومفكرين··· الإجابة على السؤال!
أ· د· محمد جابر الأنصاري قال إن اللحظة التاريخية الراهنة التي يمر بها العرب ليست من اللحظات التي تساعد على اتضاح الرؤية، فهي لحظة ضياع ودوار يشوبهما إحباط التراجعات والغضب· ولم يعد مستغرباً أن نجد نموذج ''العربي الكاره لنفسه''، الذي يمثل صدى لنموذج ''اليهودي الكاره لنفسه''·وقال: الغريب أن العربي وحده، يُطالب أن يقرر هذه الأيام إن كان عربياً أم مسلماً، بينما بقية الأقوام في العالم الإسلامي ''متاح لها أن تمارس القومي الشوفيني باسم الإسلام''·
ويعتقد الدكتور الأنصاري أن الشعور القومي لا يزال حياً على الصعيد العالمي، و''أن القومية لم تنقرض إلا في أوهامنا''· فالحدود بين دول العالم وأممه ما زالت حدوداً قومية· وكم مرّت على اليونان من عصور وثنية ومسيحية وعلمانية، ''لكن اليونان بلغتها وثقافتها ووجدانها وشخصيتها الجمعية الموحدة ما زالت هي اليونان''· وهذا ما يصدق على روسيا وألمانيا وإيطاليا، حيث استعادت ألمانيا مثلاً وحدتها بعد سقوط جدار برلين، وتحررت من عقدة النازية وتأثيراتها دون أن تتخلى عن قوميتها الألمانية· ويقرّ الكاتب بأن ''بعض المتذرعين باسم العروبة قد أساءوا إليها، ولم يكونوا حتى بمستوى المبادئ التي أعلنها قادتهم المؤسسون''· ولكنه يحذر من التبرؤ من العروبة مقابل شعارات غامضة، وإن كان من مؤيدي الدول الوطنية القائمة اليوم في العالم العربي، فهذه الكيانات هي المدخل للتطور السياسي، و''من يعجز عن بناء وطنه الصغير غير مؤهل لبناء وطنه الكبير'' فعلاً!
ثاني المشاركين في الرد على سؤال المجلة عن مصير العروبة في السياسات العربية المعاصرة، هو الباحث الدكتور عمار علي حسن، ويقول: ''من العبث أن يترك القوميون العرب نضالهم الفكري والحركي الذي امتد قرابة قرن كامل ينتهي إلى فشل ذريع، أو ينسحب إلى الهامش··· ابتداءً من تغيير اصطلاح ''الوطن العربي'' إلى ''العالم العربي'' ثم هبوطه إلى ''المنطقة العربية'' وانتهاءً بطرح مشروع خارجي يتمثل في ''الشرق الأوسط الكبير''، الذي رسم حدوده، وتعينت أهدافه، لينهي ''النظام الإقليمي العربي'' سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ويجعل من ''العروبة مصطلحاً تاريخياً''، ويرى في المقابل، أن من العبث محاولة إعادة الزمن إلى الوراء، والتمسك بتجارب ثبت خطؤها، كما لا ينبغي أن يكتفي العرب بـ''رفض ما هو مطروح، بحناجر مدوية، وكتابات مشحونة بالعاطفة الخالية من أي منطق أو تفكير عقلاني واقعي''، ولهذا فهو يدعو إلى ميلاد تيار قومي جديد يستفيد من أخطاء الماضي ويرنو إلى المستقبل، إلا أن للباحث شرطاً قاسياً؛ فهذا التيار ينبغي أن ''يمثل قوميين جدداً يختلفون في الاستراتيجية عن ''الليبراليين الجدد'' الذين يُنظر إليهم في وطننا العربي على أنهم حصان طروادة الذي يريد أن يعيد الاستعمار إلى بلادنا، أو يرهنها للقوى الكبرى في العالم''، ثم يضع شروطاً أصعب: ''القوميون الجدد يجب أن يتخلوا عن رمي كل من يخالفهم الرأي بالخيانة والعمالة··· إذ أن من بين الليبراليين العرب من يعتقد مخلصاً أن ما بين جوانحه من عواطف، وما في ذهنه من أفكار، وما في سلوكه من مواقف، إنما هي معالم الطريق المثلى للنهوض ببلادنا''·
ثالث المشاركين في الرد على سؤال المجلة كان المفكر المصري حسين أحمد أمين، وقد بدأ حديثه بالإشارة إلى جذور العروبة السياسية المعاصرة كما يراها··· وقال: ''فيما يتصل بفكرة القومية العربية، كان أول من عبّر عنها ويلفرد بلنت البريطاني في كتابه ''مستقبل الإسلام'' (1882)، فنقل الفكرة عنه عبدالرحمن الكواكبي في كتابه ''أم القرى''، ثم محمد رشيد رضا في مجلة ''المنار''··· كانت هذه الدعوة أول نقلة من فكرة الجامعة الإسلامية التي قال بها الأفغاني، إلى فكرة القومية العربية· وقد بارك الحلفاء الأوروبيون تلك الفكرة التي تبناها العرب في أقطار الدولة العثمانية كسلاح في سبيل نيل الاستقلال عن تركيا حليفة الألمان في الحرب العالمية الأولى··· غير أنهم عادوا فحاربوا الدعوة··· خاصة بعد ظهور جمال عبدالناصر''· وبعد رحيل عبدالناصر وفشل تجربته في توحيد الأمة وحرب أكتوبر 1973 وتعاظم نفوذ الدول العربية النفطية، يقول أمين، تجددت دعوة القومية العربية، ''ولكن مع اضفاء طابع جديد عليها· فقد تبددت الآن الأوهام الرومانسية التي كانت لصيقة بأفكار حزب البعث، كما تبخرت المطامح والنزعات البروسية للزعامة المصرية، واتخذ مفهوم القومية العربية شكلاً من أشكال التضامن على أساس من المصلحة المشتركة··· وحيث أن أغنى الدول العربية الممولة لهذا الشكل الجديد كانت من الناحيتين السياسية والاجتماعية أشد دول المنطقة محافظة وتمسكاً بالتقاليد، فإن الاشتراكية لم تعد الطابع المميز للقومية العربية، وإنما أصبح طابعها الغالب ربط العروبة بالإسل