هل بدأ بالزوال ذلك الغشاء الشفاف الذي سمي -في طور الحداثة الواعدة- ''علمنة العالم''؟ وماذا عن خطوط التمايز بين الهويات الدينية وتمثلاتها السياسية في عالم اليوم؟ وهل أخذت أطيافها تعود مجددا في سماء العلاقات الدولية؟
قد يكون ذلك سؤالا مفصليا في التجاذبات القائمة هذه الآونة بين عالم الإسلام والغرب على خلفية الإساءة ضد رموز إسلامية مقدسة·
وفي تطور قد يكون ذا دلالة في ذلك السياق المركب، اضطر بطل اليسار الراديكالي في أميركا اللاتينية الرئيس الفنزويلي هيجو شافيز إلى استرضاء اليهود بعد تصريحات أغضبتهم، واجتمع الأربعاء الماضي مع زعماء الجالية اليهودية في بلاده (نسبتهم 0,1%) إثر اتهامه بالإدلاء بتصريحات ''معادية للسامية''· وكان شافيز قد قال أثناء خطبة متلفزة ألقاها عشية عيد الميلاد (يوم 24 ديسمبر الماضي)، بمناسبة زيارته مركزا للإيواء: ''كم نحن بحاجة اليوم إلى المسيح، ذلك الثوري العادل الاشتراكي··· ولكن قلة من أحفاد من صلبوه قد احتكروا ثروات العالم وركزوها في أيدٍ قليلة''· مر ذلك المقطع كفقرة عابرة في تصريح شافيز دون أن يلاحظه أحد، لكن مركز ''سيمون فيز اثال'' اليهودي بأميركا اللاتينية أصدر بيان احتجاج قوي أشار فيه إلى مسألتين في حديث شافيز؛ أولاهما اتهامه لليهود بأنهم من صلبوا المسيح، وثانيتهما وصفه لهم أيضا بأنهم ''ملاك العالم''! وطالب المركز باعتذار علني عما قاله شافيز وإلا فسيعتبر عدم رده نوعا من التأكيد على ''أفكاره العنصرية''· البيان لم يكتف بذلك، بل ربط بين ما قاله شافيز وبين كونه أول رئيس دولة يستقبل الرئيس الإيراني المنتخب محمود أحمدي نجاد الذي دعا إلى محو إسرائيل من الخريطة! أما ''لجنة الحقوق اليهودية في فنزويلا''، فأكدت من جانبها تهمة ''معاداة السامية'' في خطاب شافيز، وهو الذي اعتاد على اتهامها في السابق بتمثيل السياسات الأميركية الإمبريالية ضد فنزويلا ومصالحها الوطنية·
يعتبر شافيز أول رئيس فنزويلي يساري ومناهض لسيطرة الاحتكارات الأجنبية ويعلن انحيازه للطبقات الفقيرة، وقد تم انتخابه عام 1998 تقديرا لبرنامجه في مجال محاربة الفقر والفساد وفرض السيطرة الوطنية على الثروات الطبيعية للبلاد· وبعد تسلمه مقاليد السلطة، عمل على التحسين من ظروف حياة الفقراء، وهم يمثلون نسبة 80% من العدد الإجمالي لسكان البلاد، وذلك عبر إصلاحات مكثفة؛ أبرزها توزيع الأراضي على محدودي الدخل، وخفض التضخم، وتطوير مرافق الخدمات العامة، وزيادة النمو· واستمد شافيز قوة جديدة بتكثيفه الإنفاق على البرامج التعليمية والصحية، بفضل الارتفاع الكبير في أسعار النفط، مما عزز اقتصاد المستعمرة الأسبانية السابقة، والذي لازال يعتمد على النفط وزراعة البن والكاكاو وتربية الماشية·
في مرحلة عصيبة من تاريخ فنزويلا المعاصر، ولد هيجو دو لوز رايز شافيز لأبوين مدرسين من ولاية باريناس بالجنوب الغربي، وفي سن الثامنة عشرة من عمره التحق بالجيش الفنزويلي وتخرج عام 1975 ضابطا طيارا، وفي الثمانينيات أسس العقيد شافيز مع زملائه العسكريين تنظيما سريا باسم ''الحركة البوليفارية الثورية''، وقاد من خلاله في عام 1992 محاولة انقلابية فاشلة أدت إلى اعتقاله مدة عامين، لكنه اتجه بعد إطلاق سراحه إلى الشارع واكتسب أنصارا، وأسس في عام 1997 حزب ''حركة الجمهورية الخامسة''· وبعد فوزه بانتخابات الرئاسة في ديسمبر ،1998 دخل في مواجهة مباشرة مع الشركات متعددة الجنسيات التي لعبت دورا مباشرا في إفشال حركته العسكرية، وقرر إلغاء كثير من عقودها الموقعة، قائلا إنها مجحفة بفنزويلا· أما الأحزاب التقليدية فأضعفها بإقدامه على حل البرلمان، وإدخال تعديلات دستورية تعطيه صلاحيات واسعة·
عرفت فنزويلا قلاقل واضطرابات خلال عام 2003 بسبب المسيرات الضخمة التي نظمها معارضو شافيز احتجاجا على أسلوبه الاستبدادي، وإصلاحاته اليسارية التي ''لم تجلب للبلاد سوى البؤس والبطالة والانقسام''، لكن نتائج الاستفتاء على بقائه في الحكم أو الرحيل عنه، والتي منحته في أغسطس 2004 نسبة 58,25% من أصوات الناخبين كي يكمل ولايته الرئاسية الثانية حتى نهاية عام ،2006 رسخت مرة أخرى أقدامه في السلطة ومنحته مزيدا من الاحترام الخارجي·
حدد شافيز توجه السياسة الخارجية لنظامه، مبكرا عندما قام بأول زيارة إلى هافانا مباشرة بعد فوزه بالانتخابات، معلنا أن مثله السياسي الأعلى هو الرئيس الكوبي فيدل كاسترو! ومن هذه النقطة بدأ خط التصادم العلني بين كاراكاس وواشنطن، وقد كانتا حليفتين لعقود طويلة مضت، ليمتد مع الصعود الذي حققه تيار اليسار الجديد في أميركا اللاتينية (في كل من البرازيل والأرجنتين والأوروجواي والإكوادور وبوليفيا وأخيرا في تشيلي)· وجاءت لحظة الصدام القصوى خلال المحاولة الانقلابية التي نفذها في 11 سبتمبر 2002 ضباط متمردون استطاعوا إزاحة شافيز من السلطة مؤقتا، بتأييد من الولايات المتحدة ومباركة من الكنيسة، قبل أن يستعيد الزعيم اليساري سلطته بعد