مع شدة احتدام الأزمة النووية الإيرانية الحالية، وطرح كل البدائل والاحتمالات الممكنة لمواجهتها، يثور الجدل والنزاع مجدداً حول فهم القانون الدولي، وجواز استخدام القوة والدخول في النزاعات المسلحة· يطرح السؤال وفي البال الضربة العسكرية التي وجهتها إسرائيل للمفاعل النووي العراقي في مطالع عقد الثمانينيات، وما يتردد الآن من حديث حول احتمال توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، على نطاق محدود وسري، في بعض الدوائر الأميركية والإسرائيلية· والمقصود بهذا هو فهم القانون الدولي الذي يحكم استخدام القوة العسكرية على وجه التحديد· فما هي الظروف الملائمة أو الضرورية التي يجوز فيها لدولة ما، اللجوء إلى هذه القوة، في حال فشل الوسائل السياسية والدبلوماسية؟ تلك هي الموضوعات الرئيسية التي يتصدى لها خبير العلاقات الدولية الكندي مايكل بايرس في كتابه الذي نعرضه هنا·
وبسبب الخلاف القائم حول فهم القانون الدولي، وقفت إدارة بوش متمسكة ومدافعة عن صحة موقفها في توافق شن الحرب على العراق مع نصوص القانون الدولي، في حين وقف العالم كله -فيما عدا بريطانيا وعدد آخر من الدول التي تحالفت معهما- في الطرف الآخر من الخلاف الفقهي القانوني· ولكثرة ما تتكرر مثل هذه الحالات، فإن العالم كثيرا ما وقف مذهولاً ومتسائلاً عن أي قانون دولي تتحدث هذه الأطراف المختلفة؟!
يقول بايرس إن القوانين التي تحكم الحروب وجدت منذ القرن التاسع عشر، إلا أن الدول والأمم حررت نفسها من التقيد بها، إلى أن تبنت أخيراً ميثاق الأمم المتحدة في عام ·1945 لكن المشكلة أن ذلك الميثاق لا يزال موضعاً لاختلاف التأويلات والتفاسير· فعلى سبيل المثال، عندما أقدمت إسرائيل على ضرب المفاعل النووي العراقي عام ،1981 كان موقف الولايات المتحدة الأميركية أن تلك الضربة الاحترازية لم تكن قانونية من جانب تل أبيب، ولكنها عادت لتغير موقفها ذاك لاحقاً· وبسبب الجدل الفقهي القانوني المعقد الذي يثور عادة حول حق الدفاع عن النفس، في كل مرة تحدث فيها مثل هذه الأحداث والسوابق، فقد كرّس المؤلف ثلاثة أبواب من كتابه لمناقشة هذا الموضوع· وضمن القضايا التي أولاها اهتماماً خاصاً في الفقه القانوني الدولي -نظراً لكثرة تكرارها هي الأخرى- قضية التدخل الدولي الإنساني، سواء في حالة التبرير الأخير الذي ساقته قوى التحالف الدولي بقيادة واشنطن لحربها على العراق، بعد فشل ذريعة أسلحة الدمار الشامل التي نسجت حولها تلك الذرائع، أم في التطورات اللاحقة والمستجدة الآن، مثل حالة التدخل الدولي المحتمل في إقليم دارفور السوداني، بهدف حماية أرواح وحياة المواطنين الذين يعانون من جرائم الحرب والنزاع المسلح وممارسات الإبادة الجماعية·
وفي الحالة الأولى فإن السؤال الفقهي عادة ما يدور حول ما إذا كان مشروعاً من الناحية القانونية، أن يتدخل المجتمع الدولي في شؤون دولة أخرى، بهدف وضع حد لنظام استبدادي شمولي باطش بمواطنيه، كما كان عليه عراق صدام حسين مثلاً؟ أما في حالة دارفور، فيثور السؤال حول مدى مشروعية تدخل دولة ما أو المجتمع الدولي بأسره، من أجل وقف جرائم التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية التي تتعرض لها المجموعات السكانية المقيمة في مناطق النزاعات والحروب؟ أما في بابه الأخير، فيشن الكتاب هجوماً شرساً على مجمل السياسات الخارجية التي تتبناها الولايات المتحدة في ظل الإدارة الحالية· ومصدر الانتقاد، هو ما يرى فيه الكاتب تقديماً وإعلاءً من جانب أميركا لمصالحها على القانون الدولي، إذ أن السياسات الخارجية الأميركية الحالية، تعيد العالم وعلاقاته الدولية، إلى فترة ما قبل عام ،1945 حيث ساد هذه العلاقات قانون الغاب، وحيث لم تكن لتتورع الدول القوية عن فرض نفوذها كيفما شاءت، في مختلف أرجاء المعمورة، بكل ما يستتبع ذلك من عواقب وتداعيات خطيرة·
بل وبسب الانتهاكات الفظيعة التي مورست بحق المعتقلين والسجناء المتهمين بجرائم لها صلة بالإرهاب، ولما يتردد الآن من اتهامات بوجود مخابئ وسجون سرية تديرها وكالة المخابرات المركزية الأميركية للتحقيق مع المشتبه بهم في أنحاء متفرقة من العالم، فقد ثارت مواضيع جديدة لها صلة بقانون الحرب ومعاملة الأسرى، متفرعة من القانون الدولي العام الذي يحكم الحروب· وإن كانت المآخذ قد طالت الولايات المتحدة في هذا الجانب، فإن بوابتها الرئيسية هي السياسات الخارجية التي تتبعها إدارة بوش، بكل ما تتعرض له من هجوم وانتقادات واسعة· وهنا أيضاً -مثلما في ميدان الحروب- تسود فكرة تقديم المصالح والهواجس الأمنية الخاصة، على شرعية القانون الدولي، ويسود قانون الغاب، الذي يطبق نصوصه عنوة على الضعيف وفاقد الحيلة·
وعلى عكس الاتجاه المتجاهل للقوانين والشرعية الدولية، والذي تسير عليه إدارة بوش الحالية، فإنه لابد من التذكير بالدور الريادي السباق الذي لعبته أميركا في صياغة القوانين الدولية هذه، فضلاً عن دورها في تأسيس الأمم المتحدة نفسها، والتي تستخف بوزنها ودورها الإدا