لا تنهَ عن فعل وتأتي مثله!
في مقاله ''التاريخ ومصداقيته'' المنشور في صفحات ''وجهات نظر'' يوم الثلاثاء الماضي تحدث الدكتور أحمد البغدادي عما اعتبره تقديساً في غير محله للتاريخ يسيطر على العقلية العربية، هذا مع إشارته إلى أن جزءاً كبيراً مما نسميه تاريخا عربيا إسلاميا هو كلام مرسل لم يتعرض للغربلة والنقد وبالتالي فهو غير جدير بالتقديس، ولعل إيراد عبارة الدكتور البغدادي يبدو -للأمانة- هنا أفضل حيث يقول بالحرف: ''وفي جميع الأحوال يجب عدم تقديس التاريخ، هذا التقديس الذي وصل لدى البعض إلى مرحلة التوثين''، وفي موضع تالٍ من المقال: ''التاريخ يفقد مصداقيته إذا ما أخذ كمسلَّمة لا جدال فيها، بل ولا تعود له أي قيمة علمية''، هذا شيء ممتاز، وكلام منهجي رائع، لا غبار عليه، وإن كان الكاتب الكريم لم يوفق، حسب رأيي الشخصي، في اختيار المثال الذي دلَّل به على ما يقول، وهو الإمام ابن جرير الطبري، الذي وصف تاريخه بعدم الدقة، وبأنه هو نفسه اعترف بأنه لم يغربله وإنما أورد فيه كل ما وقعت عليه يده· ويسخر البغدادي، بطرف خفي، من كم الأعمال التدوينية التي تركها الإمام الطبري، رحمه الله، غير أنه لا يتفطن إلى أن جزءاً من عمل مؤرخنا القديم هو لتدوين مختلف الروايات، وتجميعها لمن سيأتي بعده لنقدها، وليس تأريخاً منهجياً لأحداث، وقد قال ذلك في صدر تاريخه بعبارات واضحة لا لبس فيها، وليس معنى هذا بالضرورة أنه كان كـ''حاطب ليل''، يجمع الغث والسمين كيفما اتفق·
غير أنه من الغريب، من وجهة نظري دائماً، أن تأتي الدعوة إلى النقد وغربلة التاريخ، وعدم تقديسه، وأخذ الصالح منه وترك الطالح، من الدكتور البغدادي، تحديداً وليس من غيره· فهذا الكاتب يمارس في بعض كتاباته نوعاً الدعاية للتاريخ الغربي وإنجازاته، التي يعليها فوق كل ''التواريخ الأخرى''، وينظر إليها على أنها كلها خير محض، لا يدانيه سوء· وأريد أن أقول هنا للكاتب الكريم إن التاريخ الغربي مليء بأوجه القصور، وإن الثقافة الغربية، كأية ثقافة إنسانية، لها أوجه قوة وأوجه ضعف· وفي المجمل لا أرى شخصياً فرقاً كبيراً من الناحية المنهجية البحتة بين من يأخذ التاريخ العربي الإسلامي على علاته، ومن يأخذ التاريخ الغربي على علاته أيضاً·· للأسف الشديد·
منصور زيدان- دبي