في وقت ما من السنة الجارية ستشرع الولايات المتحدة في سحب بعض قواتها من العراق، لكن ذلك لا يمنع من تقييم ما ستؤول إليه الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط والآثار التي ستترتب على مغادرة جزء غير قليل من القوات الأميركية لأراضي العراق· لكن قبل ذلك علينا النظر إلى الاضطرابات التي حصلت في المنطقة نتيجة دخول الجيوش الأميركية عبر البوابة العراقية· فقد تصاعد الاستياء الشعبي وبرزت المشاعر المعادية للوجود الأميركي بعدما باتت قادرة على رفع الصوت بمطالبها في ضوء الحرية النسبية التي تعيشها بعض البلدان العربية· ومع ذلك يتعين على القوى الفاعلة في المنطقة، سواء كانت من اليساريين والقوميين العرب أو من الإسلاميين الراديكاليين، التريث قليلا قبل الابتهاج بانسحاب القوات الأميركية والمسارعة بإعلان النصر على المشروع الأميركي، لأن الفائز الأكبر في هذا الصراع ليس القوى السياسية المذكورة، ولا حتى الأنظمة الحاكمة، بل شعوب الشرق الأوسط الكبير·
فانسحاب القوات الأميركية من العراق لا يعني أبدا انحسار النفوذ الأميركي في المنطقة، بل سيرسخ أكثر وسط مخاوف واشنطن من تنامي السطوة الإيرانية· ورغم أن إيران والولايات المتحدة ستظلان لاعبين أساسيين في الشرق الأوسط يتطلعان إلى النفوذ والهيمنة، فإن شعوب المنطقة وحدها هي من سيحسم الصراع وستقرر إلى أية جهة سيميل ميزان القوة المتأرجح حاليا بين العلمانية الغربية ونظام الملالي الإيراني· شخصياً لا أتوقع أن يكتب النجاح للنظام الإسلامي في طهران لأنه استنفد أغراضه وتجاوز سياقه التاريخي· وتأتي في مقدمة المعطيات الجديدة التي اصطخبت بها المنطقة بعد الاجتياح الأميركي للعراق الإطاحة بنظام صدام حسين القمعي، وانطلاق موجة من التيارات الديمقراطية برزت قوتها في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة في الأراضي الفلسطينية ومصر، فضلا عن ارتفاع الأصوات المنادية بالإصلاح وتغيير الأوضاع القائمة في المنطقة· وقد تجاوز التأثير الأميركي مصر وفلسطين ليمتد إلى النظام السوري بعدما اشتدت عليه الضغوط وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الانهيار· ولم ينجُ النظام المصري هو الآخر من الضغط الأميركي تحت دعاوى الإصلاح والانفتاح السياسي التي طالت أيضا النظام الإيراني نفسه على خلفية إصراره على المضي قدما في برنامجه النووي·
ولأول مرة وجدت شعوب المنطقة نفسها تمارس حقها في انتخاب ممثليها، وفي الجهر بصوتها معبرة عن معارضتها للوضع الراهن وتوقها للحرية والفكاك من أغلال الوصاية التي فرضت عليها من قبل الأنظمة الحاكمة· وعلى سبيل المثال خلع الفلسطينيون عنهم الإرث الثقيل لسلطة الرئيس الراحل ياسر عرفات، والفوضى التي عجزت حركة ''فتح'' عن احتوائها طيلة السنوات الأخيرة· وإذا كانت ''حماس'' قد حققت فوزا كبيرا في الانتخابات، فإنها مطالبة بتحسين الظروف المعيشية للمواطنين الفلسطينيين أكثر مما هي مطالبة بمواصلة الكفاح المسلح الذي لن يؤدي سوى إلى مزيد من الآلام وإراقة الدماء· وما لم تنجح ''حماس'' في تحقيق هذا الشرط، فإنها ستلقى مصير ''فتح'' في الانتخابات المقبلة· من جانبه يسعى الشعب المصري إلى التصدي لمحاولات توريث الحكم وإقامة نظام يورث السلطة، كما ينتظر السوريون ما سيؤول إليه الوضع على ضوء التصدع الداخلي في بنية النظام بعد انتحار أحد رموزه وانشقاق آخر·
ورغم كل الفوضى التي يعاني منها العراق وانتشار مظاهر العنف والصراع، إلا أنه يشهد عهدا جديدا غير مسبوق من التعددية الدينية والعرقية، وترسيخاً لحقوق الأقليات من خلال دستور ينص على احترامها بعدما كانت مغيبة في السابق من قبل الطغمة الحاكمة· وبذلك يكون العراق قد فتح المجال أمام أقليات أخرى في المنطقة للمطالبة بحقوقها بما في ذلك البربر في شمال إفريقيا والأكراد في سوريا والشيعة في الخليج، فضلا عن المسيحيين والدروز في مناطق أخرى· ولعل أوضح مثال على استرداد الأقليات لحقوقها في ظل الأجواء الجديدة هو الحكومة الحالية في بغداد التي تتشكل في غالبيتها من الشيعة والأكراد لتصبح أول حكومة عربية بهذه الصيغة منذ أربعة عشر قرنا· ومهما كانت نتائج الصراع في الشرق الأوسط بين الأميركيين والقوى المناهضة لهم فإن التغيير سيظل قائما، وسيبقى الإصلاح مطلبا ملحا لا يمكن تجاوزه· وبصرف النظر عن مدى تعاطفنا مع إدارة الرئيس بوش، فإن ذلك لن يغير شيئا من حقيقة التواجد الأميركي في المنطقة ونتائجه الملموسة في تحريك المياه الآسنة وخلخلة الأوضاع المتكلسة التي ظلت جاثمة فوق شعوب المنطقة لفترة مديدة·
أما إيران التي توجد في الكفة الأخرى من ميزان القوى فقد خرجت من الحرب على العراق كأحد المستفيدين الرئيسيين، حيث تبدو عازمة على اقتناص الفرصة والعمل على تطوير برنامجها النووي بغية التمكن من حيازة أسلحة الدمار الشامل في المستقبل المنظور· ويعول النظام في طهران على الارتفاع الكبير لأسعار النفط، والطلب المتزايد عليه من قبل الصين والولايات المتحدة نفسها لتفادي احتمال فرض عقوبات اقتصادية عليها لأن ذ