حتى هذه اللحظة لم تسفر موجة التحول الديمقراطي التي ساهم فريق إدارة بوش في إطلاقها في العالم العربي- الإسلامي، سوى عن فوز الإسلاميين الأصوليين المتشددين في كل من العراق وفلسطين وإيران، إلى جانب تمهيدها الطريق أمام صعود غير مسبوق لحركة ''الإخوان المسلمين'' في الحياة السياسية المصرية· وفيما لو استمرت هذه الموجة، فستكون النتيجة هي تربع المتشددين الإسلاميين على سدة الحكم من المغرب وحتى الحدود الهندية! وبعد، فلابد من طرح السؤال التالي: هل يقف ما تفعله أميركا سلباً عند هذا الحد وحده؟ كلا بالطبع· فالحقيقة هي أن الصعود المستمر للتيارات الدينية المتشددة إلى سدة الحكم في عدة دول شرق أوسطية، لم يكن إلا حصاداً لمسيرة خمسين عاماً من الاعتماد الكلي على النفط، وعلى السياسات النفطية التي يتبناها العالم العربي الإسلامي· والمشكلة التي وقع فيها فريق إدارة بوش هو تصوره أن بالإمكان تغيير ذلك الواقع -أي أن تضع حداً لإدمان الشرق الأوسط لأنظمة الحكم الشمولية، دون وضع حد لإدمان أميركا للنفط الشرق أوسطي· وذاك هو الوهم عينه فيما يبدو· فالمشكلة أن النفط والشمولية توأمان سياميان ملتصقان، يستحيل الفصل بينهما في العالم العربي· كيف هذا؟ للإجابة على السؤال، دعنا نبدأ بالقانون الحديدي رقم واحد، الذي يحكم الحياة السياسية في العالم العربي الإسلامي اليوم· ويتلخص هذا القانون في استحالة انتقالك من استبداد وطغيان نظام صدام حسين، إلى حرية وديمقراطية جيفرسون إلا عبر قناة الخميني، أو المرور بالسياسات التي تقودها المؤسسة الدينية· ولكن لماذا؟ والإجابة كما تبين للولايات المتحدة نفسها في العراق، هي أنه وما أن تفرغ من إسقاطك للديكتاتور، حتى تبدأ بالسقوط عمودياً إلى أسفل، إلى أن يرتطم جسدك بمبنى أحد المساجد، لكي تستأنف مشوارك مجدداً من هناك! ولتعلم جيداً أنه لا حجاب مطلقاً بين القصر الملكي والمسجد· عدا ذلك فإن القلة القليلة من الأنظمة الأتوقراطية العلمانية -كما هو عليه حال بعض الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط- لا تدع مجالاً البتة لنمو أي مظهر من مظاهر الحياة المعافاة تحت قدميها· وتشمل تلك المظاهر نمو الأجهزة القضائية المستقلة، والصحافة الحرة المستقلة، والأحزاب العلمانية التقدمية ومؤسسات المجتمع المدني العديدة، الممتدة من التنظيمات النسوية وحتى النقابات والاتحادات المهنية·
ولهذا السبب فقد تحول المسجد إلى مركز بديل للسلطة، بحكم كونه المؤسسة الوحيدة التي لا تستطيع يد السلطة الحديدية القابضة، الإمساك بها وخنقها وحبس أنفاسها حتى الموت· وعليه فقد أصبح المسجد هو المكان الذي يستطيع أن يلتقي فيه الناس بحرية ويختاروا قياداتهم وزعماءهم فيه، فضلاً عن ''الفضفضة'' وتبادل الآراء الأيديولوجية المعارضة فيما بينهم· ذلك هو الذي يفسر قدرة الإسلاميين على اكتساح أية انتخابات، في اللحظة التي تقدم فيها أي من الدول العربية الإسلامية على إجراء انتخابات حرة ونزيهة بالفعل· ففي مصر فازت حركة ''الإخوان المسلمين'' بنسبة 20 في المئة من إجمالي مقاعد البرلمان، في حين انتقلت ''حماس'' وبقفزة واحدة من اللاشيء إلى أغلبية حاكمة· وفي كلا المجتمعين، فقد دمغت الأحزاب العلمانية الحاكمة -الحزب الوطني الديمقراطي في مصر ومنظمة ''فتح'' في فلسطين، بأنها أحزاب فاسدة وواجهات لأنظمة شمولية·
وعلينا أن نثير سؤالاً مهماً هنا: لماذا لا يوجد إلا القليل جداً من الأحزاب العلمانية التقدمية المعارضة في هذه الدول؟ والإجابة أن القادة العرب لا يسمحون لمثل هذه الأحزاب مطلقاً بأن تنمو وتزدهر· والخيار الذي تتيحه هذه الأنظمة لشعوبها ينحصر إما في اختيارها لأحزاب السلطة، أو للأنظمة والأحزاب الدينية المتطرفة· وفي كلتا الحالتين، تضمن هذه القيادات أبدية وسرمدية النظام الشمولي، باعتباره ناموساً من نواميس الحياة، لا سبيل للاستغناء عنه·
وإن كان ذلك هو حال التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط، فإنه لا يعني أنه النموذج الذي يسير عليه هذا التحول في كل بقعة من بقاع الأرض· ففي شرقي آسيا على سبيل المثال، ما أن انهارت الأنظمة الشمولية العسكرية في دول مثل تايوان وكوريا الجنوبية وغيرهما، حتى مضت هذه البلدان سريعاً نحو الديمقراطيات المدنية· والسبب هو أن لتلك الدول أسواقاً حرة مزدهرة، ومراكز قوة اقتصادية مستقلة، فضلاً عن افتقارها إلى النفط· ولذلك فإن على أي ممن يتولى الحكم فيها أن يرفع من قدرات ومهارات شعبه رجالاً ونساءً وأن يحسن مستوى تعليمهم وتأهيلهم، وأن ينشئ الشركات ومؤسسات الاستثمار، حتى تتمكن المجتمعات من دخول حلبة المنافسة الاقتصادية العالمية· فذلك هو السبيل الوحيد لبقاء تلك المجتمعات وازدهارها·
أما في الدول العربية الإسلامية، فنجد العكس تماماً حيث يهتم الحكام بإطالة أمد بقائهم في كراسي الحكم، تأسيساً على حرمان شعوبهم وإضعافها· ولا سبيل لتغيير هذا الواقع السياسي- الاجتماعي، إلا إن حملنا هذه الأنظمة على خفض أسعار النفط وإجراء إصلاحات داخل