أعتقد أن العقل السياسي لحركة ''حماس'' يعمل بكفاءة عالية في مواجهة موجة الضغوط الدولية التي يمارسها الغرب، والتي تطالب الحركة بضرورة الاعتراف بإسرائيل وإعلان التخلي عن الكفاح المسلح كشرط للتعامل معها· في إطار أسلوب الغموض البناء الذي اعتمدته ''حماس'' مبكراً عندما امتنعت عن إدراج أحد بنود ميثاقها، وهو البند المتعلق باعتبار وجود إسرائيل وجوداً باطلاً في إطار برنامجها الانتخابي··· أرى أن المتحدثين الكبار باسم الحركة يديرون حوارهم مع العالم بحساب دقيق· إنهم يفصحون عن استعدادهم للدخول في العملية السياسية السلمية ويرسلون رسائل مطمئنة تلتقطها دوائر السياسة الدولية، وفي نفس الوقت يبقون ورقة الاعتراف بإسرائيل في جيوبهم غير مستعدين لإخراجها· وفي تقديري أنهم ينتظرون عرضاً سياسياً واضح المعالم حول خطة إسرائيل والولايات المتحدة للتسوية كمقابل لورقة الاعتراف بإسرائيل· على سبيل المثال الإيضاحي لعبقرية الأداء السياسي لمتحدثي ''حماس'' نأخذ حوار محمود الزهار مع شبكة ''سي· أن· أن'' الأميركية في الأيام الماضية· لقد تعمد المتحدث أن ينقل الكرة إلى الملعب الإسرائيلي عندما سئل عن الميثاق وبند عدم الاعتراف بالمفاوضات السلمية، فأبدى استعداد الحركة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود عام 1967 بشرط أن تعلن إسرائيل عن استعدادها لإعطاء الفلسطينيين مطالبهم الوطنية وتفصح عن نياتها المشكوك فيها حول الانسحاب من الأراضي المحتلة عام ،1967 وإقامة رابط جغرافي بين قطاع غزة والضفة· قال الزهار: إذا ما فعلت إسرائيل هذا وأوقفت عدوانها وأطلقت سراح الأسرى، فإن الحركة ستقبل إقامة الدولة إلى جوار إسرائيل· إن الإجابة بهذا الشكل توصل أكثر من رسالة للمستمع الأميركي والأوروبي، الرسالة الأولى تقول إن المانع الحقيقي لقبول ''حماس'' بمشروع بوش لإقامة دولتين إسرائيلية وفلسطينية لا يكمن في ميثاق ''حماس'' بل يكمن في الأطماع التوسعية لإسرائيل، وهي الأطماع التي دعمها بوش في تفاهماته مع أرييل شارون عندما أيد بقاء الكتل الاستيطانية بشكل دائم·
الرسالة الثانية التي تأتي ضمن أسلوب الغموض البناء والتي يستطيع صناع السياسة التقاطها بوضوح، هي أن ''حماس'' مستعدة إذا تلقت عرضاً واضحاً بإقامة الدولة الفلسطينية في كامل الضفة وغزة··· أن تحول برنامجها المرحلي لإقامة الدولة على حدود 1967 إلى برنامج نهائي استراتيجي· أما الرسالة الثالثة فواضحة القسمات، وهي أن الحركة غير مستعدة للتنازل المجاني عن ميثاقها تحت الضغوط الدولية الجائرة التي تطالب الشعب الخاضع للاحتلال وممثليه الشرعيين المنتخبين ديمقراطياً، بتسليم كل أوراقه التفاوضية قبل بدء المفاوضات، ليصبح مجرد طرف خاضع لإملاءات قوة الاحتلال وشروطها للتسوية·
ومن حوار الزهار نفسه، نأخذ مثالاً ثانياً، سألته ''سي· إن· إن'' عن موقف الحركة من الاعتراف بإسرائيل، وهنا أيضاً استطاع أن ينقل الكرة إلى الملعب الإسرائيلي، تساءل: ما هي حدود إسرائيل التي تريدوننا الاعتراف بها، هل إذا اعترفنا بإسرائيل دون أن تعلن ما هي حدودها سيكون اعترافنا شاملاً لوجودها في الضفة الغربية عام 1967؟ إن المطلوب أولاً هو أن تعلن إسرائيل ما هي حدودها وبعد ذلك يمكن لـ''حماس'' أن ترد على طلب الاعتراف بإسرائيل· إن هذه الإجابة بدورها تؤكد على الرسائل السابقة وتضيف إليها رسالة شديدة الأهمية علينا جميعاً في دوائر السياسة والدبلوماسية العربية وأجهزة الإعلام أن نركز عليها، لتأخذ مكانتها المركزية في العقل السياسي الأميركي والأوروبي والإسرائيلي· إنها رسالة تقول إن جميع دول العالم لديها حدود نهائية معترف بها، وتتصرف كل دولة على أساسها إلا إسرائيل، وإنه من المستحيل أن يبقى الأمر على هذا النحو إذا أراد العالم زرع الاطمئنان لدى الجيران العرب الملاصقين لإسرائيل· إن العنوان العاجل الذي يجب أن تحمله قنوات الدبلوماسية العربية إلى العالم يقول في كلمات موجزة: ''فلتعلن إسرائيل حدودها النهائية لنقنع حماس بالاعتراف بها في حدود معلومة''·
مبدئياً أعتقد أن رسائل ''حماس'' قد وصلت إلى واشنطن والعواصم الأوروبية، بدليل وجود تسريبات في الصحافة الدولية تفيد أن القاهرة حصلت على ضمانات أميركية وإسرائيلية مشتركة، بأن واشنطن وتل أبيب ستكونان مستعدتين للتعامل مع الحركة إذا ما أعلنت في المرحلة الراهنة قبولا بالتفاوض مع إسرائيل على أساس فكرة دولتين·
المعنى الواضح الذي أفهمه أن الطرف الإسرائيلي- الأميركي أصبح يدرك موقف ''حماس'' من التسوية، وأنها لن تلغي ميثاقها مجاناً، وبالتالي فهو مستعد للاكتفاء بالقبول منها حالياً بالإعلان عن قبول مبدأ الدولتين مع تأجيل تعديل الميثاق لمرحلة أخرى·