بينما عمت مشاعر السرور في جهة، والحنق والغضب والاستياء في جهة أخرى، فإن ما حدث في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة ليستدعي الوقفة والتفكير والتأمل في النظر إليه وتقييمه، لكونها انعكاساً للواقع لا أكثر· أما الواقع والحقائق التي شكلت ملامح هذه الانتخابات الأخيرة وبيئتها، فقد ظلت تختمر وتتكون منذ مدة طويلة· ولذلك فإن القائلين إنها تعد نقطة نهاية لعملية السلام الجارية في فلسطين، إنما هم يتعامون أو يتجاهلون حقيقة جلية لا تخفى على النظر، ألا وهي أنه لم تكن ثمة عملية سلام جارية على الأرض الآن ولا على امتداد ما يزيد على حقبة كاملة من تاريخ النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني القريب· وربما يكون الطرفان قد مرا بما بدا أنه عملية للسلام خلال الفترة المذكورة· غير أنك ستلحظ الفرق واضحاً، ما أن تقارن ما جرى هنا في فلسطين، وما أبدته الولايات المتحدة الأميركية من عزم وتصميم واتزان في قيادة عملية السلام الإيرلندية· والمؤسف أن الفلسطينيين وحدهم هم الذين يدركون هذه الحقيقة· فمنذ عقد التسعينيات وإلى اليوم، لم يحصد الفلسطينيون من اتفاقات ''أوسلو'' سوى سحق الطموحات والآمال، بعد أن تحول وعدها إلى بناء المزيد من المستوطنات اليهودية وإقامة نقاط التفتيش وسد المعابر في وجوههم وتقييد حرية حركتهم وتنقلهم، لينتهي كل ذلك بالجدار الأمني العازل، الذي جاء بمثابة تأكيد خرساني صلب راسخ على أنه لا حلم لكم··· ولا سلام· وإذا ما أضيف إلى هذا كله تصاعد نسب ومعدلات البطالة في أوساط الفلسطينيين، مقترناً بالذل والإهانة وعنف وبطش الاحتلال، فما الذي تبقى للفلسطينيين سوى الخراب الذي طال ثقافتهم وحياتهم اليومية؟
غير أنه لابد من أن نضيف إلى عناصر هذا الواقع، أداء السلطة الفلسطينية وحزبها الحاكم· فمن ناحية يبدو أعضاء السلطة الفلسطينية في صورة ممثلين سيئي الطالع في عرض مسرحي تراجيدي كوميدي، قدم على أنه عملية للسلام· ولم يكن نصيبهم في هذا العرض سوى الفشل التام منذ لحظة رفع الستار عنه· وأي دور كان لهم أن يلعبوه في ظل ما أعطي لهم من حق في السيطرة المحدودة على الأرض، مع حرمانهم من أي سيطرة على الموارد، ومن أي فرصة لتنمية اقتصاد بلادهم الوطني؟ أما من الناحية الأخرى -وبعيداً عن أية تبريرات- فقد تصرف بعض أعضاء السلطة الفلسطينية على نحو سيئ، وعمدوا لإساءة استغلال مناصبهم وسلطاتهم، متجاهلين بذلك تصاعد مشاعر الاستياء في أوساط عامة الفلسطينيين·
لذا فإن النتيجة التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية الفلسطينية الأخيرة، إنما هي انعكاس دقيق لهذا الواقع· وفي حين أخطأ قياس الرأي العام الذي أجريناه في الأسبوعين الماضيين رصد النتيجة النهائية لهذه الانتخابات -شأننا في ذلك شأن بقية استطلاعات الرأي التي أجريت خلال المدة ذاتها -إلا أننا تمكنا من رصد حالة المزاج الشعبي العام في الشارع الفلسطيني· وبين أهم ما توصلت إليه قياسات الرأي التي أجريناها هناك، مشاعر إحباط طاغية في أوساط الفلسطينيين إزاء ''السلطة''، مقترنة بانعدام الثقة في احتمال حلول السلام، إضافة إلى قلق عميق إزاء كافة القضايا الداخلية، لا سيما مشكلتي البطالة والفساد، والنزاعات الداخلية بين مختلف القوى والفصائل، وكيفيـة تحقيق الوحدة الوطنية بين الفلسطينيين· ولكل من يمعن النظر إلى النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات، فسوف يدرك أن هذه هي القضايا التي صوتت عليها القاعدة الانتخابية الشعبية·
صحيح أن معركة الانتخابات قد انجلت الآن، إلا أن حقائق الواقع التي أفرزتها، تظل تراوح مكانها كما هي· فلن يكون في مقدور الحكومة الجديدة إجراء إصلاحات اقتصادية أوسع مما فعلت سابقتها· أما وجهة الإسرائيليين وميلهم للحل الأحادي، فقد وجد لهما ما يبررهما على أرض الواقع الجديد، في حين يرجح أن تميل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإملاء شروط القوي على الضعيف في هذه المعادلة غير المتكافئة الأطراف·