ما سُررتُ للنقاش المندلع منذ قُرابة الثلاث سنوات عن الإصلاح وعن الديمقراطية، وهل يأتيان من الداخل أم من الخارج؟ فقد اعتقدتُ دائماً أنّ هذا التركيز على ''الداخل'' ما عاد له مبررٌ بعد إذ لم يعد هناك في الحقيقة داخلٌ وخارج· ثم إنّ المقصودَ بذلك في غالب الأحيان التغطية على استمرار الأوضاع على ما هي عليه بحجة الغيرة على استقلالية القرار وأصالته، والاستعصاء على التدخل الخارجي الإمبريالي· بيد أنّ النقاشات التي اندلعت في الأوساط السياسية والإعلامية الأميركية أواخر العام 2005 عن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وما تحقّق في أفغانستان والعراق، لفت انتباهي إلى مقولةٍ تبسيطية الظاهر للمفكر الماركسي المعروف سمير أمين تذكر أنّ الأميركيين يقدمون الانتخابات بديلاً للديمقراطية، ويقدمون الحداثة بديلاً للتقدم· والواقع أنّ ذلك لا يبدو بوضوح على مستوى الخطاب؛ بل على المستوى الواقعي· ففي خطاب مشروع ''الشرق الأوسط الكبير'' الذي وضعه الأميركيون، وحمله معهم الأوروبيون والأطلسيون، تقترن التنميةُ بالديمقراطية· لكنّ ما حصل في أفغانستان والعراق، يبقى أدنى لمقولة سمير أمين فعلاً· بل في هذين البلدين بالذات، يبدو الأمر من السوء بحيث تصبحُ الانتخاباتُ (الحرة) فعلاً تغطيةً أو تسويغاً للأوضاع السيئة السائدة·
قال الأميركيون-ووافقهم العالم كله- إنهم يريدون إسقاط حكومة ''طالبان'' بأفغانستان، لأنها آوتْ أسامة بن لادن، ومكنتْهُ من إنشاء تنظيم ''القاعدة''، الذي شنّ غارةً على الداخل الأميركي في 11/9/2001 ذهب ضحيتها آلاف المدنيين الأبرياء· وقد تحقق بالغزو الأميركي سقوط حكومة ''طالبان'' فعلاً، وحدثت خلال السنوات الثلاث الماضية عدة انتخابات؛ بينها انتخاباتٌ رئاسيةٌ أخيراً· لكنّ الأوضاع اليومَ بتلك البلاد، ليست أفضلَ مما كان عليه الأمر من قبل لسائر الجهات، باستثناء حالة ''الحداثة'' إذا صحَّ التعبير: ففي مجلس النواب الجديد، وفي الإدارات العامة(التربية والصحة) أعدادٌ معتبرةٌ من النساء· لقد أعاد الأميركيون إلى السلطة بأفغانستان عدة تنظيماتٍ ميليشياوية من تنظيمات
''المجاهدين'' السابقين ذات الطابع الإثني والمذهبي· وما تزال تلك التنظيمات حاكمةً ومسيطرةً حتى اليوم رغم حدوث الانتخابات الحرة، لا لأنّ الأكثرية الوطنية انتخبتها؛ بل لأنّ نظام الحصص الذي فرضه قانون الانتخابات ثبّت سيطرتَها ولم ينحّها· لكن حتى في مواطن الأكثرية البشتونية، ما زادت سيطرة الحكومة المركزية برئاسة حامد كرزاي (البشتوني)، لأنّ الإدارات سيطر فيها الميليشياويون أيضاً، وبعضهم طبعاً من البشتون المتعاونين مع الغُزاة· وهكذا فإنّ الانتخابات ما غيَّرت نُخبة الحرب؛ بل إنها أعطتْها شرعيةً في عيون الأميركيين والأطلسيين على الأقلّ· وما تزال جنودهم هناك لحماية هؤلاء في المُدُن؛ في حين عادت ''طالبان'' للسيطرة في المناطق الريفية والجبلية إلى جانب شيوخ العشائر والإقطاعيين· وليس هذا فقط؛ بل إنّ الاستقرار ما تحقق، وقد زادت عمليات ''طالبان'' في الشهور الأخيرة، وازدادت خسائر الأميركيين وحلفائهم بعد فتراتٍ من الهدوء النسبي· على أنّ الطريف والمأساويَّ في الوقت نفسِه عدم توقف ''الإرهاب''· إذ ما أمكن القبضُ على أُسامة بن لادن، وكبير معاونيه أيمن الظواهري· وما يزال الرجلان يصدران البيانات التهديدية في المناسبات· وتتحقق تهديداتُهُم في العادة· وقد انتشر العنف باسم الإسلام، والذي تتبناه ''القاعدة''، وما عاد يحتاج إلى مركزٍ في أفغانستان أوغيرها، وهدَّد القارة الأوروبية، كما هدد الدول العربية والإسلامية· وبذلك ما تحقق أيٌّ من تلك الأهداف التي بحث عنها الأميركيون، وسعوا إليها·
والأمر نفسُه يمكن قولُهُ عن العراق، وبشكلٍ أوضح وأفظع· فقد غزا الأميركيون ذلك البلد لسببين معلنين: إزالة أسلحة الدمار الشامل، والقضاء على ''الإرهاب'' الذي قالوا إنّ صدام حسين يتعاون مع أقطابه· وقد تبين أنّ الأمرين غير صحيحين· فانتقل الأميركيون للقول إنهم يريدون بناء دولةٍ ديمقراطيةٍ بالعراق· وطريقتُهم في البناء جاءت أفظع من طرائقهم بأفغانستان: بدأوا بإلغاء الجيش وقوى الأمن الداخلي، وشكلوا جيشاً وشرطةً من الميليشيات الشيعية والكردية التي جاء زعماؤها معهم من أوروبا والولايات المتحدة وإيران والمنطقة الكردية· وجاءت الانتخابات المتعددة لتؤكّد سيطرة تلك الميليشيات، ولا تغير من الواقع الذي استتبّ من خلال الغزو، قيد أُنملة· فالذين أتاح لهم الأميركيون السيطرة إبّان دخولهم إزداد وجودهم السياسي بعد الانتخابات النيابية والرئاسية· وقد احتفظ هؤلاء إلى جانب الجيش والقوى الأمنية بميليشياتهم الخاصّة، وأقبلوا على نهب ما تركه لهم الأميركيون من ثروات البلاد، وحشد أنصارهم في الإدارات، والعمل كأنما هم يعيشون أبداً؛ وكلُّ ذلك بحجة أنهم كانوا مضطهدين في السابق، وأنّ الشعب أتى بهم إلى السلطة في انتخاباتٍ حرة!
وما تحقق الاستقرارُ لا بوجود مئات الألوف من الجنود الأميركيين وحلفائه