تذكر مصادرنا أن أربعة أشخاص اجتمعوا بمكة بمناسبة عيد لقريش، كانت تحتفل فيه عند أحد أصنامها، فتصادقوا على أن ينبذوا عبادة الأصنام ويطلبوا دين جدهم إبراهيم· وهؤلاء الأربعة هم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل· وتقول الرواية إنهم تفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم· أما زيد بن عمرو بن نفيل فقد تحدثنا عنه في المقال السابق· وأما عبيد الله بن جحش فقد أسلم عند قيام الدعوة المحمدية ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ''فلما قدمها تنصَّر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانياً''· وأما عثمان بن الحويرث فقد ذهب إلى قيصر ملك الروم فتنصَّر و''حسنت منزلته عنده''· وأما ورقة بن نوفل -عم خديجة زوج النبي عليه الصلاة والسلام- فتقول الروايات إنه ''استحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها، حتى علم علماً من أهل الكتاب''· وأنه ''كان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب''· و''الإنجيل بالعبرانية'' هو الإنجيل الذي كان المرجع الوحيد لـ''الذين قالوا إنا نصارى'' (ومنهم أريوس وأتباعه كما ذكرنا في مقال سابق)·
يقول رجال الكنيسة الرسمية إن هذا ''الإنجيل بالعبرانية'' المنسوب إلى متى، فيه ''تحريف كبير''· والمسألة المطروحة هنا هي: أين يقع التحريف فعلا هل في الأناجيل الأربعة المكتوبة باليونانية والمبنية على عقيدة التثليث التي لم تكن معروفة في المسيحية الأولى، أم أن التحريف اختص به الإنجيل المكتوب بالعبرانية، إنجيل ''الذين قالوا إنا نصارى''؟ ليس من اختصاصنا الإجابة عن هذا السؤال· غير أنه يمكن القول إنه بناء على ما ورد في القرآن فإن التحريف طال الأناجيل التي تقول إن الله ثالث ثلاثة·
تنصر ورقة بن نوفل إذن وصار عالما من علماء النصرانية ''العبرانية'' أي التي بقيت وفية لتعاليم التوراة بما في ذلك الختان والامتناع ''عَنِ الأَكْلِ مِنَ الذَّبَائِحِ النَّجِسَةِ الْمُقَرَّبَةِ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ ارْتِكَابِ الزِّنَى، وَعَنْ تَنَاوُلِ لُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَخْنُوقَةِ، وَعَنِ الدَّمِ'' (الإنجيل: أعمال الرسل)، ومعارضة التثليث بطبيعة الحال· وعندما جاء الوحي إلى محمد بن عبدالله في غار حراء ذهبت به زوجته خديجة إلى عمها ورقة تطلب منه تفسير ما حدث لزوجها بغار حراء· ولما استمع ورقة إلى ما حكاه الرسول له قال: ''هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى! يا ليتني فيها جذعا! ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك''! وتضيف الرواية أن النبي سأله: ''أومخرجي هم''؟! أجاب ورقة: ''نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِيَّ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا''· وقد توفي ورقة عند ظهور الإسلام· وقيل سئل عنه النبي عليه السلام فقال: ''قد رأيته (في المنام) فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بُطنان الجنة (وسطها) وعليه السندس''·
ومن الرهبان الذين تذكر كتب السيرة أنهم بشروا بنبوة محمد، وهو ما يزال بين التاسعة والثانية عشرة من عمره، الراهب بحيرا· كان هذا الراهب في بُصرى من أرض الشام يعيش في صومعة هناك· فلما سافر محمد بن عبدالله، مع عمه أبي طالب في ركب من التجار إلى الشام نزل الركب في بُصرى، فاستضافهم الراهب بحيرا· ولما تعرف الراهب على محمد أخذ يلقي عليه أسئلة حول حياته الشخصية والشاب محمد يجيب· ثم التفت الراهب إلى أبي طالب فقال له: ''ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفتُ ليَبْغُنَّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم''· وهناك حول هذا الموضوع روايات أخرى من هذا القبيل عدلنا عن ذكرها تجنبا للتكرار·
ومـن الحنفـاء المشهورين أمية بن أبي الصلـت الثقفي (من الطائف)، وكان تاجرا يذهـب إلى الشام ويتصل بـ''أهل الكنائس من اليهود والنصـارى وقرأ الكتب، وكان قد علم أن نبيا يبعث من العرب، وكان يقول أشعارا على آراء أهل الديانة يصف فيها السماوات والأرض والقمر والملائكة، وذكر الأنبياء والبعث والنشور والجنة والنار ويعظم الله عز وجـل ويوحِّده··· ولما بلغه ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم اغتاظ لذلك وتأسف، ''وجاء المدينة ليسلِم فندم ورجع إلى الطائف'' ومات فيها· وهناك روايات متعددة بشأنه، منها واحدة تقول: إنه هو الذي أراده تعالى بقوله : ''وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ'' (الأعراف 175)·
ومن ''الحنفاء'' الذين تذكرهم المصادر: خالد بن سنان العبسي· وقد اختلف المفسرون وكتاب السيرة في شأنه اختلافا كبيرا· فيذكرون أنه كان له فعل خارق للعادة وهو إطفاء نار عظيمة بما يشبه المعجزة، وجاء في رواية أن ابنته جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ''فبسط لها ثوبه وقال: بنت نبي ضيَّعه قومه''، وفي أخرى أنها سمعت النبي يقرأ: ''قل هو الله أحد الله الصمد''، فقالت : ''كان أبي يقول هذا''، بمعنى أنه كان من الموحِّدين·
وظهر في الناحية