يقوم العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز هذا الشهر بجولة آسيوية تقوده إلى الصين والهند وماليزيا وباكستان، هي الأولى من نوعها منذ تسلمه مقاليد الحكم· وما يهمنا هنا هو زيارته إلى الهند بالتوافق مع احتفالاتها السنوية بعيدها الوطني·
هذا حدث تاريخي بكل المقاييس، ليس فقط بسبب طبيعة الزيارة ومستواها وتوقيتها ودلالاتها، وإنما أيضا بسبب ما للدولتين من مكانة ونفوذ وثقل ضمن محيطهما الإقليمي على الأقل·
فمن ناحية طبيعتها ومستواها، فهي الزيارة الأولى لزعيم سعودي إلى هذا البلد الذي تربطه بمنطقة الخليج روابط ضاربة في أعماق التاريخ· ذلك أنه منذ الزيارة الرسمية اليتيمة للملك سعود بن عبدالعزيز إلى نيودلهي في ديسمبر عام 1955 لم يزر الهند أي من خلفائه، بل لم يزرها أي مسؤول سعودي كبير باستثناء وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في عام ·1981 وقد انطلق الكثيرون من هذه الحقيقة للقول بأن علاقات البلدين، لئن اتصفت منذ تأسيس الروابط الدبلوماسية الكاملة بينهما في عام 1954 بالهدوء والتواصل، فإنها تحمل في طياتها الكثير من الهواجس والشكوك النابعة من اختلافات تحالفاتهما الإقليمية والدولية على نحو ما سنفصله لاحقا· ومن ناحية توقيت الزيارة، فإنها تأتي في وقت يحفل بالكثير بالمستجدات المحلية والإقليمية والدولية من تلك التي تفرض إعادة صياغة الدول لعلاقاتها الاستراتيجية مع الآخر وفق مفاهيم وأسس جديدة للشراكة· بل إنها تأتي في ظل ما يبدو أنه نهج سعودي وخليجي جديد للانفتاح على قوى آسيا الكبرى وفق سياسة ''التوجه شرقا'' التي طالما نادت بها النخب الخليجية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وسخرت لها الكثير من مؤتمراتها وندواتها· كما أنها تأتي في ظل حالة من الطفرة الاقتصادية في المملكة وعموم أقطار مجلس التعاون الخليجي، ترافقها سياسات وخطط رسمية للمزيد من التنمية المدروسة والاستثمار بعيد المدى، لا سيما في مجالي التنمية البشرية والعلمية اللذين حققت الهند فيهما نجاحا مشهودا· ويقابل هذا اهتمام متزايد من قبل الهند وبقية الأطراف الآسيوية بإقليم الخليج وأمنه واستقراره ورخائه لاعتبارات كثيرة، لعل أهمها ضمان تدفق الطاقة التي تتزايد حاجة آسيا إليها يوما بعد يوم بسبب ما يدور في الأخيرة من حراك ونمو اقتصادي باعث على الدهشة· وأخيرا فإن الزيارة تأتي بعد عام ونصف تقريبا من الاتفاقية التاريخية التي وقعتها دول مجلس التعاون جماعيا مع الهند لتأسيس شراكة اقتصادية متعددة الأوجه والأغراض كمقدمة لإطلاق منطقة تجارة حرة بينية· هذه الاتفاقية التي سبقها مؤتمر فريد في مومباي لوزراء الصناعة ورجال الأعمال ومسؤولي غرف الصناعة والتجارة من الجانبين، وأثمر عما سمي بـ''إعلان مومباي''· في هذا الإعلان اعترف الجانبان صراحة بأن روابطهما التاريخية العميقة وقربهما الجغرافي وتواصل شعوبهما منذ أقدم الأزمنة والطبيعة اللاتنافسية لاقتصادياتهما، لا يتناسب إطلاقا مع حجم ما هو قائم بينهما حاليا من تعاون، مما يتطلب المزيد من العمل المنهجي الجاد·
أما من ناحية الدلالات، فإن الزيارة كما تبدو تأكيد على أن علاقات البلدين لم تعد تتحكم فيها أو تحدد معالمها ومداها سوى المصالح المشتركة، بمعنى أنها تجاوزت نهائيا آثار المراحل الصعبة السابقة، حينما كانت محكومة بالعاطفة والأيديولوجيا أو كانت الشكوك والهواجس السياسية تخيم عليها بسبب عوامل خارجية مرتبطة بأطراف ثالثة صديقة لأحد طرفيها ومعادية للطرف الآخر، وليس بسبب وجود قضايا خلافية مباشرة بين الجانبين· إن أجواء التفاؤل التي تحيط اليوم بزيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز لديار العملاق الهندي، شبيهة بتلك التي سادت زيارة الملك سعود المطولة قبل نصف قرن بالتمام والكمال، وكأنما التاريخ يكرر نفسه· يومذاك انتعشت الآمال حول ما يمكن أن يضيفه التقاء وتعاون البلدين الكبيرين إلى قضايا الأمن والسلام والتنمية والتحرير في المنطقة، لتتعزز أكثر بعد صدور البيان المشترك عن المحادثات والذي تضمن إشادة كل طرف بمواقف الطرف الآخر وعزم البلدين على ''التعاون الثنائي في شتى المجالات وبأقوى الصور، بعثا لروابطهما التاريخية القديمة، وخدمة لمصالحهما ومصلحة السلام العالمي''· وكانت سعادة الهند أكبر بخطاب ارتجله الضيف السعودي في حفل عشاء وقال فيه ما نصه: ''أود أن أقول لأشقائي المسلمين أينما كانوا أني واثق من أن مصير مسلمي الهند في أيد أمينة''· إذ مثل هذا التصريح العلني لزعيم الدولة الراعية لأقدس مقدسات المسلمين، أفضل رد على الدعاية الباكستانية وقتها والتي كانت تتهم الهند باضطهاد مسلميها والتمييز ضدهم·
وهكذا توطدت العلاقات السياسية بين البلدين، وخاصة بعد زيارة الزعيم الهندي جواهر لال نهرو إلى الرياض في سبتمبر 1956 والاستقبال الرسمي والشعبي الحافل الذي أعد له كمحرر للهند وتلميذ نجيب للمهاتما غاندي وصديق للعرب وداعم لقضاياهم في فلسطين والسويس· غير أن كل هذا الانسجام السياسي انتكس لاحقا (وهو ما لا نتمى أن يكر