كان ضرورياً أن تتنبه الدول العربية إلى خطورة أهداف الحملة الضارية على سوريا، وما يمكن أن تجر إليه من احتمالات مريعة، فليس مصادفة أن يصعّد جنبلاط حملته بالتزامن مع حملة خدام، ومع تزاحم زيارات مسؤولين أوروبيين وأميركان إلى بيروت لتوزيع الأدوار وتضييق الخناق على سوريا، ومع انقلابات دراماتيكية في الأحلاف اللبنانية، من أخطرها خروج بعضهم على ما كان ثوابت لا جدال فيها· وقد جاء رفض بعض الأطراف اللبنانية للمبادرات العربية لإصلاح الموقف ودعوتهم لتدخل أجنبي منذراً بوجود خطة لإشعال الحرائق عبر استفزاز الحركة الوطنية الواسعة المتمسكة بعروبة لبنان والرافضة للتدخل الأجنبي والحريصة على حضور المقاومة وعدم السماح لإسرائيل وأعوانها في الداخل بأن تقتص من المقاومين الشرفاء فتنال بالسياسة الخادعة ما لم تستطع نيله بالحروب الفاجعة·
ولست مطمئناً لسيل التصريحات التي تؤكد أن الولايات المتحدة تستبعد العمل العسكري في المنطقة، فقد حرصت الولايات المتحدة على أن يصدر مجلس الأمن قراراته ضد سوريا تحت البند السابع، لتكون لها حرية التصرف حين تشاء، وهذا لا يعني أنني أتوقع أن تشن الولايات المتحدة حرباً جديدة، ولكنني لا أريد أن نستبعد هذا الاحتمال الذي يسعى إليه كثير من قادة ''المحافظين الجدد'' الذين لم يعد لهم هم في الكرة الأرضية غير التخلص من وجود ''حزب الله'' في لبنان ومن حضور ''حماس'' في فلسطين، وغير إخضاع سوريا وإجبارها على السير في خدمة المشروع الأميركي·
ولست أطمئن إلى تبرير استبعاد احتمال قيام الولايات المتحدة أو إسرائيل بعمل عسكري بكونهما أخفقتا في العراق، أو بالقول إن الطرفين لا يرغبان بالمزيد من الفوضى والتدمير وقد جاءت نتائجهما مزيداً من الإرهاب، فقد يكون هذا صحيحاً، ولكن قد يكون خديعة كذلك، فالذين هدموا العراق ودمروا شعبه وسرحوا الجيش العراقي والشرطة كانوا يسعون إلى إحداث الفوضى· ومما يدعو إلى الريبة بالمخطط القادم هو احتمال صعود فريق نتانياهو إلى الحكم في إسرائيل وهو الفريق الذي خطط لإفشال عملية السلام في مدريد، وقلب مبدأ العملية السلمية من (السلام مقابل الأرض) إلى (السلام مقابل أمن العرب) و''الصقور'' الذين يستعدون اليوم لوراثة شارون ليسوا أقل دموية منه، وهناك من يدعو بينهم إلى ضرب سوريا وجنوب لبنان، وإشاعة الفوضى في المنطقة كلها لأنها الوسيلة الوحيدة التي تتيح تفتيت البنى الاجتماعية والسياسية المستقرة، وإثارة النزعات الطائفية والعرقية وإنهاك الدول العربية بالصراعات العرقية والإثنية والدينية والمذهبية· وليس أفضل لإسرائيل كي ترسخ كونها الدولة القوية الوحيدة الآمنة المستقرة من أن يغرق العرب والمسلمون في حروب أهلية طاحنة، وتكون مهمة إسرائيل توفير السلاح لهم، وتأجيج الصراع بينهم، كي تتاح لها سيطرة مطلقة على الشرق الأوسط الكبير· إن رفض إسرائيل للمبادرة العربية للسلام (وهي فرصة ذهبية تحل كل مشكلات المنطقة)، دليل على أن الحرب ما تزال الخيار المفضل عند إسرائيل، وقد بات واضحاً أمام المجتمع الدولي أنها تهرب من السلام لأنها لا تريد أن تدفع ثمنه، وقد قال بيريز يوماً (إن انسحاب إسرائيل إلى حدود الـ67 يعني نهاية إسرائيل) ويبدو أن حكماء الصهيونية يدركون أن إسرائيل لا تستطيع العيش في بيئة سلام، لأن طبيعتها عدوانية، فهي دولة تأسست على سرقة أرض وتهجير شعب وقتل أبنائه وقد سعت إلى إبادته بدعم أوروبي غربي ثم أميركي على مدى مئة عام ونيف، ولكنه شعب ولود مناضل عنيد في تمسكه بحقوقه، وقد جرب معها مسيرة السلام فلم يصل إلى شيء، بل إنها قتلت رابين ثم قتلت عرفات لكي تقتل عملية السلام، ولم يفلح معها غير المقاومة التي أجبرتها على الهروب من جنوب لبنان، ثم على الهروب من غزة، وهي اليوم تتمسك بالقوة المطلقة كي لا تواجه استحقاقات السلام·
إن دعاة الحرب وإشاعة الفوضى في المنطقة لا يدعون إلى ذلك جزافاً، فالفوضى والدمار هما البيئة المناسبة لنمو المشروع الصهيوني الذي يواجه انكفاء وتراجعاً وعزلة خلف الجدار العازل، والصهاينة المتطرفون الذين يحملون أحقاداً تاريخية من عصر بابل ثم من عصر خيبر يخشون أن يبدد السلام أوهامهم، لأن استقرار المنطقة لن يسمح لإسرائيل بأن تحقق أحلاماً تاريخية ودينية على حساب العرب والمسلمين، بل إن السلام سيفرض على إسرائيل الاندماج في المنطقة وهذا ما يخشاه المتطرفون لأنه يهدد الهوية الدينية والعنصرية لإسرائيل التي ستكون نشازاً في بيئة تعددية إنسانية مسالمة·
ولقد بدأت أطراف معينة في لبنان بتصعيد حملتها على سوريا واعتبارها عدواً للبنان تمهيداً وتحريضاً لإشعال الفتنة، ومن يسمع تصريحات جنبلاط الأخيرة يدرك خطر ما يتم التحضير له، وليس صحيحاً ادعاؤه بأنه يفرق بين الشعب السوري وبين النظام لأنه وأعوانه قتلوا العشرات من العمال السوريين البسطاء الذين كانوا يسهمون بسواعدهم في بناء لبنان وعمرانه·
لقد قال جنبلاط في إحدى مقابلاته على قناة ''الحرة'' قبل أيام إن مشكلته مع '