هل من الضروري أن تتكلف الدولة أكثر من أربعة مليارات ريال من أجل بناء جسر هائل يحل محل جسر هو الآخر هائل لرمي الجمرات لمجرد أن هناك عددا من كبار العلماء في المملكة لا زالوا مصرين على عدم جواز الرمي قبل الزوال، ويمنعون صدور فتوى رسمية تزيل الحرج عن الدولة وعن ملايين الحجاج؟ في الوقت الذي يفتي بذلك عدد متنام من أعضاء هيئة كبار العلماء، فانضموا إلى رأي سائد في الأمة منذ قرون، ويقول به عدد كبير من علماء الأمة الإسلامية كشيخ الأزهر ومفتي جبل لبنان والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهم كثر، بل بدا أن فقه التيسير هو الغالب في الأمة·
لقد عبر سمو وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز، وهو العالم بتفاصيل الصعوبات المتعددة في إدارة أكبر تجمع بشري، بحكم ترأسه لجنة الحج العليا عن حقيقة المشكلة وأن حلها لا علاقة له بمزيد من الجسور أو رجال الأمن، وإنْ كانت الدولة لم تقصر في الاستجابة إلى مختلف المقترحات لتطوير عملية الحج، بقوله عقب حصول كارثة التدافع يوم 12 ذي الحجة ''الأمر الأول المطلوب من علمائنا بالمملكة وغير المملكة وعلماء المسلمين، أن يستنبطوا من أحكام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يسهل على حجاج بيت الله رمي الجمرات، سواء كان قبل الزوال أو بعد الزوال وهـذا أمر مهم جداً وواجب عليهم حفاظا على أرواح المسلمين''·
لقد أخذ صوت العلماء السعوديين الذين يريدون أن ينطلقوا باجتهاد شرعي يفيد البلاد والعباد ويتحرروا من رأي المدرسة الواحدة، وهو ما تلح بالمطالبة به القيادة في المملكة، فالدولة السعودية وقيادتها متلاحمة مع الإسلام تلاحم لا خلخلة فيه، ولكن الدولة وقيادتها كانت دوماً متقدمة على المؤسسة الدينية الرسمية في نظرتها للمستقبل، والتي بالرغم من جمودها بقيت مكان الاحترام وإن اضطرت الدولة إلى تجاوزها بسبب مواقفها المتصلبة في مسائل عصرية ثبت لاحقاً أن موقف الدولة هو الصحيح· وأخر مسألتين جليتين في ذلك موضوع الجوال المزود بالكاميرا الذي كاد أن يجعلنا أنموذجاً للتخلف، وأهم منه مسألة التأمين التي لو أخذت الدولة برأي المؤسسة لما كنا اليوم جزءا من منظمة التجارة العالمية·
إن التمايز في داخل أي مؤسسة فكرية مفيد ومثرٍ لها، والانغلاق والتطابق في الرأي إضعاف لها، لقد أضحى فقه الحج نموذجاً لهذه المشكلة خاصة بعد ارتفاع أصوات علماء من داخل هيئة كبار العلماء وخارجها مطالبين بالتيسير على الحجاج والدولة أيضاً، وبالتأكيد فإن لهؤلاء آراءهم المميزة حول مسائل أخرى حياتية، وسيكون من المفيد لو طُور سبيل ما كي يستطيع هؤلاء أن يمارسوا دورهم داخل الهيئة وفي شتى أركان المؤسسة الدينية الضخمة والمتشعبة من القضاء حتـى التعليم·
وإذا عدنا للحج كنموذج نجد أن التوقعات تقول إن أعداد الحجاج إلى ازدياد مستمر، في الوقت الذي لا يزيد فيه زمان ومكان الحج، ولكن الحق أن فقه التيسير يمكن من التوسع في الزمان والمكان، مثل موضوع الرمي قبل الزوال فحسب تعبير سمو وزير الداخلية '' هناك فرق كبير بين أن يقتصر وقت الرمي على ساعة أو ساعتين، ومن الواضح أن يقصد ساعة الذروة الممثلة بعد الزوال والمستندة الى الفتوى القديمة بأن الرمي لا يكون إلا بعدها ''وبين الأربع والعشرين ساعة فهناك في صباح يوم الثاني عشر إلى مساء يوم الثالث عشر من ذي الحجة ما يكفي أن يتوزع هؤلاء الحجاج على رمي الجمرات بكل يسر وبكل سهولة''·
إن قصة الرمي بعد الزوال نموذج لأزمتنا في السعودية مع الفقه الجامد المصر على النقل من كتب الأسبقين بل ليس كل الأسبقين وإنما عدد قليل منهم لا تملأ كتبهم رفاً واحداً، فالفتوى كما شرحها فضيلة الشيخ عبد الله المطلق، عضو هيئة كبار العلماء، وهو من أقلية شجاعة خرجت برأيها المميز والعقلاني، رغم علمه بوجود من يرفض فتواه داخل الهيئة، لقد فاجأ مشاهديه على القناة السعودية الأولى قبل يومين من حصول كارثة التدافع وهو يفتي بصريح العبارة بجواز الرمي طوال اليوم، وهي فتوى لو اعتمدتها هيئة كبار العلماء وعممتها وزارة الشؤون الإسلامية على مفتيها في اكشاكهم المنتشرة في المشاعر، والذين ظلوا بإصرار عجيب يفتون للحجاج بعدم جواز الرمي قبل الزوال، لكان من الممكن تفادي هذه الكارثة، والتي لا يجوز التقليل من شأنها، مثلما فعل أحد الخطباء الذي أخرج آلته الحاسبة وأجرى عملية رياضية انتهى بها إلى أن ''نسبة المتوفين 14 لكل مئة ألف وهي نسبة ليست ضخمة حسب الأعراف الدولية''· ولا أعرف أي نوع من الأعراف الدولية التي تحدد العدد المقبول أخلاقياً من القتلى في حالات الازدحام، إنه منطق يشبه منطق وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد عندما يسأل عن القتلى في العراق وأفغانستان فيستطرد في الشرح حول حرص طائراته على تحاشي المدنيين ثم يذكر نسبا وجملا غير مترابطة عن احتمالات الخسائر الجانبية بين المدنيين الذين لابد وأن يسقطوا من أجل المحصلة النهائية وهي تحرير العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب وجعل العالم أكثر أمنا، ولا اعتقد أن شيخنا الجلي