تعد الأوضاع التي تشهدها الضفة الغربية وقطاع غزة حالياً نتيجة حتمية لتضافر عدة عوامل خارجة عن إرادة الفلسطينيين· فما يحدث الآن من انتهاك للقانون وأعمال عنف بين الفلسطينيين إضافة إلى أزمة اجتماعية خانقة كلها أمور كانت متوقعة، فعندما يتعرض أي مجتمع لفترة طويلة من القمع والحرمان غالبا ما تتميز ردة الفعل لديه بالعنف الذي يكون موجها في البداية إلى مصدر الاضطهاد، ولكنه ما يلبث أن يوجه في مراحل لاحقة، بعد أن يكون القمع والاضطهاد داما لفترة طويلة من الزمن، إلى الداخل ويتخذ أشكالا وسلوكيات مضادة للمجتمع ومدمرة للذات· ومما لاشك فيه أن إسرائيل تتحمل نصيباً كبيراً من المسؤولية عن هذه المأساة رغم أن أجهزة العلاقات العامة الإسرائيلية التي تعمل على قدم وساق كي تنأى بإسرائيل عن اللوم والعتاب، مدعية أن ما يحدث إنما هو دليل على الطبيعة العنيفة التي يتميز بها المجتمع الفلسطيني، وهو تبرير يوفر سبباً إضافياً لتل أبيب لعزل وحماية نفسها من هؤلاء الأشخاص· ولكن لا يمكن لإسرائيل أن تتملص من مسؤوليتها عن هذه الأوضاع، ذلك أن ما يحدث هو نتيجة مباشرة لسياساتها التي جعلت الفلسطينيين اليوم يعيشون كشعب أسير لا يتحكم في ظروفه·
عليّ أن أقر أنني ممن يمكن تسميتهم بـ''الليبراليين الاجتماعيين''· ولأنني درست حالات مشابهة لشعوب تعرضت لفترات طويلة من القمع (الأميركيون الأصليون والأميركيون من أصول إفريقية والجنوب أفريقيون والجزائريون أيام الاستعمار الفرنسي)، وأعي جيداً إلى أي مدى يتأثر السلوك البشري بالقوى السياسية وظروف الوسطين الاجتماعي والسياسي· والأمر نفسه ينطبق على العلاقات فيما بين الأشخاص· وعلى سبيل المثال، فقد ثبت أن الأطفال الذين يتعرضون للضرب والاستغلال يصبحون هم أنفسهم يمارسون الضرب والاستغلال· وبالتالي فلا يمكنني أن أضع كامل اللوم على عاتق الأوضاع الحالية أو الضحية·
ولو وضعنا أي شعب في الظروف نفسها التي عاش تحتها الفلسطينيون خلال القرن الماضي ما كان ليبلي بلاءً أفضل ويتدبر شؤونه بكيفية أحسن· فالفلسطينيون اليوم لا يتحكمون في اقتصادهم، كما أنهم لم يمنحوا حرية وفرصة تنميته· ونتيجة لذلك، يعيش ثلثا السكان الفلسطينيين تحت خط الفقر في حين بلغت نسبة البطالة 50 في المئة (أما في قطاع غزة فإن 80 في المئة من الشباب عاطلون عن العمل)· وما يزيد من تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتدهورها عدم تحكم الفلسطينيين في حياتهم· هذا وتستمر معاناة الفلسطينيين جراء مصادرة أراضيهم وهدم منازلهم والعقاب الجماعي والتحكم في تنقلاتهم وحرمانهم من الوصول إلى العالم الخارجي (بل وحتى التنقل داخل مناطقهم المحاصرة)· ناهيك بطبيعة الحال عن أعمال العنف المتكررة التي يتعرضون لها· لقد شوه اليأس والغضب اللذان تفرزهما هذه الظروف كل مناحي الحياة اليومية ليصبحا اليوم موجهين للداخل بما قد يحمله ذلك من عواقب قد تكون وخيمة ومدمرة· ولكن القصة لا يمكنها أن تنتهي هنا، فرغم أنني ليبرالي بالمعنى الذي وصفته آنفا، فإنني أؤمن كذلك بالإرادة الحرة ومتطلبات الزعامة للتغلب على ظروف الحياة اليومية وتحدي النفس والمجتمع من أجل النجاح· وإذا كان صحيحاً أن الفلسطينيين هم ضحايا، إلا أن الزعماء الفلسطينيين الذين يشاهدون مجتمعهم على شفا الهاوية عليهم ألا يقفوا موقف المتفرج، إذ يجب أن ترتفع الأصوات لدعوة الفلسطينيين إلى نهج توجه جديد وأن يحرموا بالتالي المحتلين من النصر النهائي· ففي أماكن وأزمنة أخرى كان ثمة العديد من أمثال نيلسون مانديلا والقس توتو ومارتن لوثر كينغ وجيسي جاكسون الذين طفوا على السطح لتحدي الأمر الواقع وتوحيد شعوبهم والانتقال بها من تدمير النفس إلى تحسين النفس ثم إلى التحرير·
والواضح أن الفلسطينيين في حاجة إلى توجه جديد وزعامة جديدة، غير أن ذلك لن يتأتى عبر الانتخابات المقبلة لوحدها· وفي حال لم يحدث ذلك فالفترة التي ستلي الانتخابات قد تنطوي على مخاطر المرحلة الراهنة ذاتها، بخصومات جديدة تحل محل الخصومات القديمة في ظل تفاقم الأزمة الداخلية واستمرار عمليات تصفية الحسابات·
والأكيد أنه لا شيء يغفر لإسرائيل مسؤوليتها الكبيرة عما يجري، كما لا يُغفر للولايات المتحدة والمجتمع الدولي إهمالهما وغض الطرف عما يقوم به المحتل المسؤول عن الظروف القاسية التي يعيشها الفلسطينيون اليوم· وفي ضوء كل ما سبق، فإن ثمة حاجة ماسة وعاجلة إلى ظهور زعامة واعية تساعد على إبعاد هذا الشعب الذي طالما عانى من الحصار من شفا الهاوية حتى يحرم أرييل شارون والسياسات التي دافع عنها من نشوة الانتصار النهائي·