إجراء الانتخابات الفلسطينية في موعدها لن يكون نهاية العالم، ولا ينجز الحقوق الفلسطينية الأساسية، لكنه خطوة جوهرية وربما مصيرية للشرعية الفلسطينية بعامة في الوقت الراهن· وإعادة ترميم وتأسيس الشرعية الفلسطينية هي البوابة الوحيدة لمرحلة جديدة في المسار الفلسطيني العام· فالفلسطينيون يواجهون اليوم سؤالاً مصيرياً يتعلق بمصير ومسير مشروع التحرر الوطني برمته، وسؤال الشرعية الفلسطينية جزء فرعي من السؤال الأكبر· راهنية السؤال الفرعي يجب ألا تغيب عن أذهاننا السؤال الأكبر والأكثر إلحاحاً· باختصار، إجراء الانتخابات هو البداية التي لا غنى عنها لإعادة تأهيل النضال الفلسطيني لانتزاع الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، ولإيقاف الانحدار الذي تعاني منه الساحة الفلسطينية منذ سنوات، وعلى إيقاع فشل ''أوسلو''، ووحشية التعنت الإسرائيلي، وفساد الأداء الفلسطيني، وتفكك التضامن العربي·
من هنا فإن التلاعب بالانتخابات الفلسطينية، إجراء، أو تأجيلاً، أو تزويراً، معناه زيادة أمد تذرِّي الشرعية الفلسطينية، وإطالة عمر الفوضى والتشتت وفقدان البوصلة· وطرح تأجيلها سواء من قبل أطراف فلسطينية داخلية مثل ''فتح''، أو أطراف خارجية مثل إسرائيل أو الولايات المتحدة يغلق الفرصة شبه الأخيرة على الفلسطينيين لاستجماع قواهم وبث دم وحيوية جديدة في المشروع الوطني برمته· ولئن كانت حسابات تل أبيب وواشنطن إزاء الانتخابات تقوم على أساس تقدير مصلحة إسرائيل أولاً وأخيراً، فإن حسابات الأطراف الفلسطينية وخاصة الجيل الهرم في ''فتح'' إزاء تأجيل الانتخابات تقوم على أسس حزبية ضيقة، ومضرة بالمشروع الوطني، ومخجلة·
وعندما يصمد الرئيس الفلسطيني ''أبومازن'' أمام الضغوطات الكبيرة التي مارسها عليه الجيل القديم في ''فتح''، و''أبومازن'' ينتسب عملياً وعمرياً إلى ذلك الجيل، ويصر على إجراء الانتخابات في موعدها، فإنه يستحق الإشادة· وعندما يصمد أمام الضغط الإسرائيلي والأميركي الذي يطالبه بحظر مشاركة ''حماس'' في الانتخابات أو وضع شروط على تلك المشاركة فإنه يستحق الإشادة أيضاً· ''أبو مازن'' ليس ''أبو عمار''، وهو لا يملك الكاريزما ولا النفوذ ولا طرائق السيطرة التي كان يملكها ياسر عرفات، والتي بمجموعها شخصنت النضال الفلسطيني وألغت المؤسساتية والكل الآن يدفع ثمنها· وليس لـ''أبومازن'' تيارات عريضة أو مجموعات مسلحة تأتمر بأمره من تحت الطاولة فتخيف هذا الطرف أو ذلك· كما أنه لا يسيطر على المال الفلسطيني فيشتري هذا أو ذاك· قوة ''أبومازن'' في وضوحه وشفافيته· الكثيرون يختلفون واختلفوا معه في مواقفه السياسية العديدة، ومنهم كاتب هذه السطور، ابتداءً من هندسته لاتفاقات ''أوسلو'' وحتى اليوم· لكن ما لا يستطيع أحد إنكاره هو صدقه مع الفلسطينيين وعدم كذبه عليهم، ووضعهم في الصورة الحقيقية للواقع الذي يواجهونه من دون تزويق أو ادعاء انتصارات· والآن يتبنى موقفاً واضحاً إزاء ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها، ولتكن نتيجتها ما تكون· وقال بوضوح إنه لو فازت ''حماس'' في الانتخابات التشريعية فإن ذلك سيكون من حقها·
صحيح طبعاً أن موقف ''فتح'' الشابة المؤيد لإجراء الانتخابات في موعدها قد صلب من موقف ''أبومازن'' أمام جيلها الهرم· فـ''فتح'' الشابة تشعر بأنها هي التي بإمكانها منافسة ''حماس'' بقوة، فيما ''فتح'' الهرمة هي التي ستخسر· ولربما كان موقف جيل الشباب في ''فتح'' من الانتخابات هو أيضاً الذي صلب موقف ''أبومازن'' إزاء مسألة مشاركة ''حماس'' وعدم الانصياع للاشتراطات المقترحة أميركياً وإسرائيلياً على تلك المشاركة·
بيد أن السؤال الأهم والأكبر من الانتخابات الذي يجب أن يلح على ''أبومازن''، و''فتح''، و''حماس''، وكل القوى والأطراف الفلسطينية، هو وماذا بعد الانتخابات؟ ما هو المشروع الوطني الذي يجب أن يتوافق عليه الجميع، أو على الأقل مشروع القاسم المشترك الأدنى الذي يلم الأغلبية؟ فهذه المرة لن تكون الأغلبية فتحاوية أو حمساوية، بل ستكون تحالفية أو توافقية وإلا سيطر الشلل على الحياة السياسية الفلسطينية· وما هو الإطار الذي يفترض أن يشتغل فيه ذلك المشروع الوطني المؤمل صوغه: هل هو إطار تفاوضات، أم مقاومة؟ هل هو إطار الشرعية الدولية، أم إطار ''أوسلو'' وبقاياها؟ وما هي الأساليب التي سوف يعتمدها ذلك المشروع؟ ثم أين موقع وفعل فلسطينيي الخارج من المشروع الوطني، وهم يزدادون تهميشاً يوماً إثر يوم؟ هناك أسئلة ملحة وكبيرة تواجه فلسطين والفلسطينيين في اليوم التالي للانتخابات، ويجب أن تسرق بريق الفوز التكتيكي لأي فصيل، لأنها أسئلة مصيرية ومقلقة ومن العيار الثقيل·
ما ستخلقه الانتخابات هو صوغ شرعية فلسطينية مكتملة من ناحية التمثيل السياسي للفلسطينيين، رغم أنها ناقصة من ناحية تمثيلهم الديموغرافي بسبب غياب فلسطينيي الخارج· لكن بكل الأحوال ستكون شرعية أفضل ألف مرة من الوضع القائم الذي يعاني من الإهتراء، وأجزاء كبيرة منه تحتاج إلى تغيير حقيقي· وبناء على تل