منذ منتصف القرن الماضي وصلت إلى مسامع الإنسان العربي مقولات ''نظرية المؤامرة''، وأخذت تلك النظرية مجالاً واسعاً وحيزاً كبيراً في مخيلته· والواقع هو أن الإنسان نادراً ما يهتم بما يقوله أو يفعله الساسة أو بما يتخذونه من قرارات، تكون في بعض الحالات مصيرية بالنسبة لمستقبل أوطانهم وأجيالهم المتعاقبة، بالقدر الذي يكونون فيه مهتمين بمحاولات فك رموز الأجندات والبرامج الخفية التي تقبع وراء تصرفات السياسيين وتحركهم، وما هي المؤامرات التي تحاك ضدهم·
إن نظرية المؤامرة في عقل الإنسان ومخيلته وثقافته السياسية المعاصرة أصبحت ذات نفوذ كبير، إلى درجة أن العديد من النظم العربية باتت تدرك خطورة ذلك على الأوضاع السياسية القائمة وعلى الأمن الاجتماعي في بلدانها· لذلك فإنها تعمل لكي تحتوي تأثيرات مقولات نظرية المؤامرة وخاصة الإشاعات المغرضة التي تصاحبها· إن تأثيرات مقولات نظرية المؤامرة قد تكون لها تداعيات على السياسة الخارجية والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الدول وعلى البيئة السياسية أو الاقتصادية القائمة فيها·
لقد بات العديد من النظم يعترف بأن نظرية المؤامرة لها قبول كبير وصدى مسموع في أوساط الجماهير، وعادة ما يتم تصديق ما يطرح في أوساطها من دعاية سياسية· لذلك فإن العديد منها يغتنم الفرص لكي يبرر السياسات التي يتخذها على أساس أنها سياسات مضادة للمؤامرات التي يحيكها الأعداء في الخارج ضد مصالح الوطن· وعلى هذا الأساس تسود في بعض البلاد العربية أطروحات تشير إلى أن سياسات الدول الكبرى تجاهها هي حلقات في سلسلة متصلة تهدف إلى إعادة السيطرة الكاملة على مقدراتها وإخضاعها لأشكال جديدة من الاستعمار· إن هذه الأطروحات توجد لها أصداء واسعة في أوساط العامة إلى درجة مبالغ فيها وذات تأثيرات سيكولوجية وسلوكية سلبية على الإنسان تحدث خللاً في ثقافته السياسية المعاصرة·
إن انشغال الإنسان في البلاد العربية بمقولات نظرية المؤامرة، لم يعد انشغالاً هامشياً يبحث في خلفيات ما يدور حوله من قضايا، بل أصبح انشغالاً جوهرياً يعزو كل تصرف يتخذ من قبل دولة ما في إطار تحقيق مصالحها لدى أطراف في البلاد العربية، إلى أنه مؤامرة تحاك ضد هذا البلد أو ذاك، لذلك فإن الملاحظ هو أنه كلما استجد حدث غير متوقع يترتب عليه تواجد مناخ من الشك والريبة يولد في نهاية المطاف إشاعات تستشري في المجتمع كالنار في الهشيم وتروج بأن المؤامرات الجسام تحاك ضده·
إن نظرية المؤامرة، في ظل الضعف الذي تواجهه الدولة الوطنية والإحباط الذي يعيشه الإنسان، تقدم لنا شروحات وتبريرات لأسباب وبواعث التطورات المتسارعة الغير قابلة للتفسير والتي تحدث حولنا كبشر وليس لنا دور حقيقي أو فعال في حدوثها، أو حتى التأثير فيها أو في المسارات التي تتخذها· إن هذه النظرية تجد سوقاً رائجة في أوساط البشر لأنها تقدم لهم مظهراً شكلياً من السيطرة على قوى ذات قدرة هائلة على الفعل وقد بات لها تأثير كبير على العديد من مظاهر حياتهم اليومية سواء كانوا أفراداً مستقلين أو مجتمعات متكاملة أو دولاً ذات سيادة·
إن العديد من دارسي العلوم السياسية في عالم اليوم، يرون أن التصرفات الخاصة بنظرية المؤامرة، مرتبطة بالسلوكيات الحاقدة التي يتم القيام بها بشكل متعمد، فلا شيء يحدث بالصدفة· لذلك فإنه يوجد اعتقاد بأن السلوك البشري يفعل فعله من خلف الأحداث الجسام التي تقع· إن ظهور وباء فتاك في أوساط البشر كإنفلونزا الطيور أو مرض نقص المناعة المكتسبة، وهي أمراض لا زال الطب الحديث عاجزا عن التعامل معها بكفاءة لإنقاذ البشرية، تعتبر أموراً غير متوقعة في باطن العقل البشري وإن كانت أسبابها الحقيقية هي تسرب الفيروسات الفتاكة من المختبرات· ولكن رغم ذلك فإن البشر ينظرون إليها على أنها مؤامرات تحاك ضدهم من قبل أطراف يرون بأن لها مصالح في القيام بذلك كتحقيق الأرباح المالية أو النيل من مصالح الآخرين·