من معالم الحضارة الإنسانية، احترام رغبة البشر في المعتقد بحيث لا يستبعد الإنسان أخاه مهما كان الدين الذي يدين به والفكر الذي يحمله، دون الدخول في إصدار الأحكام الأخلاقيــة على بني آدم من شتى الملل والنحل·
إذا كان هناك جرم أعظم في هذا الكون، فهو أن يخضع عباد الله بعضهم لبعض ، فمن لم يرض بعبادة الله وحده فلا يحق لمخلوق مثله أن يمارس الاستعباد في حقه، فهذا هو مغزى قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن الصفاء، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا·
وقصة البشرية منذ الأزل تختصر في تحرير هذا العبد من ربقة العبودية، لذا كانت الحرية من أهم دعائم قيام الحضارات واستمرارها إلى أن يحق عليها قول ''لكل أمة أجل''، فالأجل المحتوم هنا قد يحكمه القدر اللازم لبقاء الإنسان مدافعا عن الحريات والتي على رأسها حرية ممارسة اعتقاداته وفق السنن التي فطر الله الناس عليها دون تبديل·
ففي إحدى الأساطير القديمة خرج رجل إلى العالم حاملا سيفه يبحث عن قضية يدافع عنها، ففي البداية كانت ممارسة السلطة المطلقة والتوسع في بناء الإمبراطوريات، وهو في طريقه إلى ذلك وبتحقيق الأهداف التي من أجلها أشهر سيفه في وجوه كل المعترضين عليه تبين له أن هناك ممارسات بشرية تأصلت وتجذرت في قلوب بعض الكهنة الذين يحاكمون خلق الله بأشد أنواع العقوبات غرابة لمجرد أنهم يمارسون حريتهم في المعتقد، فكانت المخالفات تقع على رأس من يخالف أمر هذا الكاهن أو القديس والقسيس·
وبعد أن انتهى ذلك الفارس من مهمة التوسع في إضافة المساحات الجغرافية إلى أرضه حدثه أصحابه قائلين ها أنت وقد قمت بكل ما يملي عليك ضمير الدفاع عن وطنك الذي صنعته بحد السيف طيلة العقود فلم يبق لديك قضية تحارب من أجلها، ففكر الفارس وقلب الأمور مليا، فكاد يملي عليه أصحابه ما يريدون فوجد بعد تلك الانتصارات أن هناك قضية أكبر من الفتوحات الإمبراطورية وغزو أراضي الآخرين من أجل عيون الطغاة في الأرض، ألا وهي حرية الإنسان ذاته والدفاع المستميت حتى يبقى كذلك، ثم يعبد بعد ذلك ما يهوى، فلا يوجد لكهنة وسدنة الدين كلمة ملزمة عليه لأن الرب سبحانه لم يعط هؤلاء حق إجبار الناس على عبادة رب العباد فهم أحرار فيما يعتقدون ويذهبون إليه من مذاهب شتى، لأن مرجعهم إليه فهو حسيبهم في يوم ينادي على عباده والجميع أحرار حتى تلك اللحظة وعليه يكون الميزان منصفا لكل من يدفع ثمن هذه الحرية·
من خلال هذه اللقطة الأسطورية نصل إلى ملخص مفاده أن الدين لله وليس لبشر على الإطلاق حق التصرف فيه، فالحق سبحانه لم يترك عباده كالبهائم السائبة فقد ميزهم بالعقل الذي يزين هذا الإنسان ويعطيه حق التكريم على كل مخلوقاته· فالحضارة التي تسحب البساط من تحت قدمي الإنسان أعز ما يملكه في هذا الوجود لا تستمر طويلا، لأن من فقد حرية التصرف بعقله وإرادته فلا مفر من العيش عبدا لأي شيء ما عدا الرب سبحانه·
فالحضارة الحقة هي التي تعيد إلى الإنسان حريته التي سلمها لمن لا يستحقه من العباد، فمن أراد أن يدافع عن قضية يشاركه فيها كل البشر فلتكن الحرية على رأس القائمة فبها تحيا الحضارات وبدونها تندثر وإن سميت إسلامية أو عربية، شرقية كانت أو غربية·