يبدو في المشهد السياسي العربي الراهن أن العرب أمة الفرص الضائعة، فهم لا يستفيدون مطلقاً من دروس التاريخ -لا ماضياً ولا معاصراً- إذ لا تفسير آخر لمجمل التحركات العربية أمام الوضع السوري المأزوم، ففي الوقت الذي يسعى فيه ''المجتمع الدولي'' إلى جلاء الحقيقة في مقتل الشهيد الرئيس الحريري وسلسلة الاغتيالات التي أودت بالرموز الوطنية اللبنانية، دعماً للبنان وسيادته واستقراره وإعادة إعماره، نجد تحركاً عربياً مناهضاً يسعى جاهداً لإنقاذ النظام في سوريا، لتجنيب بعض كبار رموز الحكم السوري من المثول أمام لجنة التحقيق الدولية عبر وساطات معينة·
لقد تحدثت صحف عربية -مؤخراً- عن صفقة عربية على ''الطريقة الليبية'' تجنب رموز الحكم الكبار المساءلة والتحقيق! وكان السيد عمرو موسى -الأمين العام للجامعة- قد نشط مؤخراً في رحلات مكوكية بين دمشق وبيروت بهدف إجراء وساطة ما، ولكنه فيما يبدو وبعد أن تعرض لهجوم لبناني، أعلن نفض يده من الموضوع وفشله، تاركاً المهمة العسيرة للكبار الذين قاموا بمسعى جديد عبر ''باريس'' بهدف إنقاذ النظام من السقوط وبخاصة بعد تصريحات خدام المدوية·
السؤال الذي يقلق المجتمع الدولي هو: لماذا يحاول هؤلاء العرب تشجيع النظام على الالتفاف على القرار الدولي الذي ينص على ضرورة التعاون الكامل؟!
لماذا يسعون جاهدين للدفاع عن نظام وهم أدرى بكثرة مناورته؟! يقولون نريد أن ننقذ سوريا وهم -حقيقة- يسعون لإنقاذ النظام·
في الحديث الشريف، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ''انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقالوا: ننصره إذا كان مظلوماً، هذا معروف، ولكن كيف ننصره ظالماً؟! قال: تأخذوا على يديه فلا يظلم''· ولكن المفهوم العربي المعاصر للنصرة القومية للأخ المتورط، أصبح مشوهاً كغيره من المفاهيم السامية، مثل ''الجهاد''، و''الاستشهاد''، و''الولاء والبراء'' و''الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر''، والتي شوّهت مــــن قبل الجماعات المتطرفة·
أصبح مفهوم ''النُصرة'' و''الفَزْعة'' عند العرب -حسب التفسير القومي- مسايرة النظام المتورط وعدم مكاشفته بالحقيقة ليزداد تورطاً، بل ومساندته وتشجيعه على مزيد من التصعيد وعدم تبصيره بالأخطاء حتى ينزلق إلى المهالك!
هكذا فعل جانب كبير بل هو الأكبر من العرب بالأمس القريب حينما زيّنوا لرأس النظام العراقي باطله وسايروه في حماقاته وساندوه في ظلمه وبطشه، بل ذهب شعراء العرب ومثقفوهم يكيلون المديح لأمجاده وخصاله، حتى إذا حاول حكيم العرب، الشيخ زايد رحمه الله تعالى، جاهداً أن ينقذ الوضع العربي ويجنب العراق المزالق والأهوال، فقدم مبادرته الحكيمة، لم يشأ -الأمين العام للجامعة- وقد أخذته ''العزة القومية'' أن يدرجها في أجندة القمة العربية، وحصل ما حصل· ولكننا قوم لا نتعلم من تجاربنا! فما حصل بالأمس، تتكرر اليوم (بوادره وإرهاصاته)، أبواق ومنابر وصحف وفضائيات عربية عديدة تدفع النظام السوري لمزيد من العناد والتصلب وتشجعه على المواجهة والمناطحة تمسكاً بشعارات الستينيات البالية· يقولون لدمشق أنت قلب العروبة وقلعة الصمود ونحن معك ولكنهم أبعد الناس عن حقيقة النصح والصدق· وكما يقول المثل العربي صديقك من صَدَقك لا من صدَّقك، الذين يخشون على دمشق هم من يصدُقونها ويخلصون لها لا من يزينون لها طريق المزالق·
ولنا في الأوروبيين، قدوة، فعندما لم يفد النصح واستمر النظام اليوغسلافي في بطشه وعدوانه، وقفوا وقفة واحدة وأزالوا نظامه، وها هم الآن يحاكمون ''سفاح العرب'' على جرائمه· هذا هو المفهوم الحضاري الصحيح لانصر أخاك· أما المفهوم العروبي فينتمي للعصر الجاهلي المتخلف· المشكلة أن العرب يعلمون يقيناً الشمولية التي مكّنت القلة من الاستحواذ على معظم الثروة، كما علموا -من قبل- مآسي التدخل في لبنان·· ومع ذلك لم يحركوا ساكناً ولم يكاشفوا النظام بما ينبغي عليه من ضرورة الإصلاح الداخلي، وترك لبنان لأهله، حتى إذا وقعــت الواقعة، قالوا: أنقذوا سوريا من الخطــر·
نعم سوريا في خطر ولكن بسبب السياسات الخاطئة وبسبب مسايرة العرب لها· وعندما أراد الرجل الثاني في النظام الانشقاق وكشف الغطاء لم يجد عاصمة عربية تؤويه فلجأ إلى باريس ليطلق رصاصة الرحمة على النظام الذي شارك فيه (40) عاماً· لو كان العرب جادين حقاً، في مساندة سوريا لقالوا للنظام: واجه لجنة التحقيق الدولية، ومن يثق في براءته لا يخشى شيئاً، وفي سبيل كشف الحقيقة لا أحد يستعصم ويتحصن بالسيادة الوطنية، فذلك أصبح غير مقبول بعد أن تكاثرت الشكوك والاتهامات·
وفي تراثنا الإسلامي كان أمير المؤمنين يقف مع خصمه اليهودي (سواء) أمام القاضي من غير أي حرج· وإذا كان ''شيراك'' يمثل أمام اللجنة ويدلي بإفادته، فلماذا يعتصم الآخرون ويستكبرون على المواجهة؟! لماذا الخشية من التحقيق؟! وما الضرر في التعاون الكامل الذي يقطع الشك باليقين؟!