ها هو السودان يبدو مظلوماً على مساحة عريضة هذه المرة، ويروح أهله يشتكون هنا وهنالك بعد أن كانوا كثيراً موضع الشكوى! فها هي تشاد تتهم السودان ظلماً بإعلان الحرب عليها، ومن ثم إعلان نفسها في حالة حرب على الجبهة الغربية له للتصدي للجيوش السودانية· وها هم السودانيون يسقط بعضهم نتيجة اشتباكات مع قوات الأمن المصرية في ساحة مصطفى محمود بالقاهرة، وها هو ''جيش الرب'' يستغل حدود السودان الجنوبية لمهاجمة جيش موسيفيني شمال أوغندا، وكأنه يرتع في أرض بلا سلطان رغم إنذارات الطرد السودانية لهؤلاء المتمردين!
هذه الصورة المثيرة في بعض ما كتبه أناس نحترم الكثير منهم، في صحافة السودان وأجهزة إعلامه، بل وعلى مواقع إنترنت مشهود لها بموضوعية العرض على الأقل، أصبحت تثير الانزعاج الشديد والمخاوف على مصائر بلادنا مجتمعة -لا مشتتة- لأنها تصنع موضع الانفعال الساذج، ما يجب أن يوضع في موضعه الصحيح من التحليل الدقيق ورؤية الأبعاد والمؤثرات الحقيقية، بل والعناصر الفعلية للموضوع نفسه قبل أن يشمر بعضهم عن أقلامه، أو قل يشهرها، باسم شعب في وجه شعب آخر بينما أصبح من أوليات التحليل والتعليق أن نتعرف على طبيعة القوى الحاكمة لهذا الفعل أو ذاك، وذلك بمنطق الجدل الاجتماعي، وصراعاته الدائرة على أشدها الآن شمال وجنوب الوادي، لا بمنطق حس المؤامرة التي لا تشير في هذه الحالات لمنظمة أو حزب مثلاً وإنما لبلد أو شعب بكامله! ولن أدخل هنا في أية تفاصيل ليست من شأن هذا المقال وإنما قصدت الإشارة لبعض ما وراء تحليل هذه الأحداث من مخاطر أعمق، تتجاهلها التحليلات الانفعالية الجاهزة·
أولاً: لابد أن المحللين العقلاء قد أدركوا لعبة السلطة التشادية في إثارة حول ''الحرب مع السودان''، بل وقد يكونون أدركوا حتمية تحرك هذا الفصيل الثائر في المنطقة أو ذاك، لدفع بعض جوانب الأزمة لصالحه، بحكم استمرار الصراع الاجتماعي والسياسي في هذه المنطقة الحرجة من الصحراء الكبرى، ولكن الكثيرين لابد أنهم انتبهوا أيضاً للبعد الأعمق في هذه الموجة من الصراع في اتجاهاته الفرانكفونية أو الأميركية، بعد أن فشلت إلى حدما موجة الأفريقانية في مواجهة العروبية، تحت أسماء الجنجويد والزغاوة···إلخ، بل وإنهم لم ينسوا عند الدعوة لاجتماع في طرابلس وآخر في نجامينا أو ليبرفيل، الإشارة إلى استمرار عروبة الشمال المتأمركة في مواجهة أفريقية -بدل فرانكفونية- الوسط الأفريقي أو الغرب الأفريقي، واتخاذ تشاد أو السودان قاعدة لهذا التوجه أو ذاك· عندئذ سيدرك الذين بالغوا في مضغ أحاديث الجنجويد أو الزغاوة كيف أن هذه المستويات الصغرى في التحليل لابد أن تراجع نفسها، عندما تضع أمامها الحقائق الكبرى على أرض هذه القارة التعيسة، وذلك لأن أحداً خارج القارة لا يريد استقراراً حقيقياً في هذه المنطقة التي تعوم على بحيرة البترول واليورانيوم والغاز في وقت يطرد فيه صراع القوى الكبرى على جانبي الأطلسي وليس على جانبي الأيديولوجيا هذه المرة! ولو أن المحللين العقلاء ركزوا التحليل على القوى الاجتماعية التي تتشكل فيها شعوبنا، وتتشكل خلالها المصالح الطبقية أو السلطوية أو الفئوية أو حتى العرقية -باعتبار كل ذلك المستوى الأصغر- وانتقلوا من ذلك إلى المستوى الأكبر -الدولي الرأسمالي العولمي- لأدركنا حقائق الصراع وحددنا مواقع أقدامنا في خنادق الصراع مع الحكومات والقوى التي ما زالت تساند هذه السلطة أو تلك في سلوكها السياسي التسلطي وغير العقلاني، سواء في غرب الوادي أو شماله··· ولاستطعنا معاً التعامل مع الصراع عن الجنجويد، وعن الدينكا والجلابة··· وغير ذلك من أقاويل ''أولي الإحسان'' ومنظماتهم الإنسانية العالمية الذين خفتت أصواتهم عندما أصبحنا نرى الصراعات بالمستوى الأصغر بين الزغاوة أنفسهم أو داخل هذا الإقليم أو ذاك لننتبه إلى أصل الداء في تشكيلنا الدولي والسلطوي والطبقي وجوهر اقتصادنا السياسي الذي يناله التشوه المؤسف من الداخل والخارج على السواء·
ثانياً: أما المعلقون المنفعلون بما يسميه بعض المنفعلين بـ''مجزرة المهندسين''، فلا يغفر لانفعالهم إلا البعد الإنساني المباشر للحدث، وهو أعلى من أن يجري تبسيطه، ومنذ البداية أكرر أنه ليس في نيتي معالجة أية تفاصيل عن هذا الحدث الجارح لكل الأطراف، والذي يستدعي في كل لحظة طلب العزاء ورفع الفاتحة أو الدعاء لشفاء المتضررين منه· لم يلتفت المعلقون المتسرعون إلى عشرات البيانات التي صدرت عن قوى حقيقية في التكوين السياسي والاجتماعي للشعب المصري، فقدمت وتقدم الاعتذار والعزاء للشعب السوداني، في صفوف الحركة السياسية المعارضة، وتجمعات الجامعيين والجمعيات والمراكز غير الحكومية، بما سجلته المواقع السودانية نفسها· بل إن عناوين الصحف المصرية تكاد تفوق ما نشر في الخرطوم دون تلك التعميمات غير المسؤولة·
لنبق إذن على مستوى التحليل المناسب على الأقل لتبقى العلاقات متطورة -ولا نقول أزلية- لأن المتوقع لتكتل اقتصاد سياسي شعبي ديمقراطي وحقيقي في