'الهروب للأمام'' و''إثارة الغبار'' و''تصدير المشكلات'' المستعصية، كلها حلقات متصلة ببعضها بعضاً في سلسلة صلدة، حلقات تعني أكثر ما تعني عجزا عن رسم الحلول وتجاوز المشكلات والوصول إلى الأهداف·
تكاد هذه السلسلة بحلقاتها الصلبة أن تلتف بإحكام على عنق كثير من المواقف السياسية في العالم العربي، الكل يستخدم نفس الحلقات وذات السلاسل للهروب ورمي تبعات العجز على الآخرين·
تصريحات السيّد إبراهيم الجعفري رئيس الحكومة العراقية الانتقالية السابقة التي قال فيها: ''إن المملكة -العربية السعودية- لم تسهل دخول العراقيين الراغبين في أداء فريضة الحج لهذا العام، وإن المملكة لم تأخذ في الاعتبار رغبة أعداد متزايدة من العراقيين أداء فريضة الحج منذ سقوط نظام صدام حسين''·
هذه التصريحات تمثّل نموذجا مثاليا لـ''تصدير المشكلات'' المستعصية إلى الخارج، فبدلا من أن يشغل السيّد الجعفري نفسه بحكومته التي انحدرت بالمجتمع العراقي إلى ما يقارب الحضيض، فقد فضّل ''الهروب'' من مشكلاته القائمة برمي بلائه على السعودية مع استدرار مزيد من تعاطف العراقيين معه لعلهم بذلك يتناسون فشله في إدارة حكومة وطنية ناجحة·
كان طبيعيا ألا يمرّ تصريح السيّد الجعفري على السعودية مرور الكرام، فقد ردّت بقوّة على هذا التصريح بتصريح مماثل، وقال مصدر سعودي مسؤول -على حد وصف وكالة الأنباء السعودية- ''إن السيد إبراهيم الجعفري ترأس بعثة حج بلاده قبل توليه منصب رئيس الوزراء في العراق ويعرف حق المعرفة التفهم الكبير والجهد المنقطع النظير والمرونة الفائقة التي تبديها جميع الجهات المعنية بالحج في المملكة للتسهيل على الحجاج العراقيين، وكيف أن أعداد الحجاج العراقيين الذين قدموا لأداء فريضة الحج خلال العامين الماضيين قد زادت بأكثر من 40 في المئة عن الحصة الرسمية المقرة لحجاج العراق على أساس قرار مؤتمر وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي الذي حدد حصة كل دولة بألف حاج لكل مليون من سكانها من المسلمين'' وأضاف المصدر ''إن المملكة خلال العامين الماضيين قبلت بتقديرات الجانب العراقي لعدد السكان بالرغم من المبالغة فيه وتعاملت المملكة بكل التعاون مع عدم قدرة السلطات العراقية المعنية بالحج، وعلى رأسها السيد إبراهيم الجعفري على ضبط إصدار وثائق السفر للمواطنين العراقيين الراغبين في أداء مناسك الحج وعجزها عن توزيع تلك الوثائق بصورة عادلة منصفة بين فئات الحجاج العراقيين المختلفة وكيف كان كل ذلك يخضع للحسابات الفئوية والمناطقية وحتى المذهبية''·
بغض النظر عن مثل هذه التصريحات السياسية التي لا تخلو من بساطة، فإن الحقيقة التي يجب أن نقف عندها هي أن حكومة السيّد الجعفري قد فشلت في إدارة الدفة السياسية في العراق داخليا وخارجيا وحديث الأرقام والإحصائيات لا يكاد يخطئ·
تعدّ عمليّات الإحصاء ولغة الأرقام من أهمّ وسائل قياس النجاح والفشل، وتمنح المقارنة مجالا للنظر والحكم، وبالإحصائيات المقارنة بين مستوى أداء حكومة السيّد علاّوي المؤقتة ومستوى أداء حكومة السيّد الجعفري الانتقالية يتضح بما لا يدع مجالا للشك كم انحدرت حكومة السيّد الجعفري بالعراق·
بعض تفاصيل هذه الإحصائيات يقول إن إجمالي عدد القتلى العراقيين بلغ (3724 علاّوي، 35700 جعفري) ومتوسط القتلى في صفوف قوّات الأمن العراقية بلغ -شهريا- (65 علاّوي، 115 جعفري) والهجمات الانتحارية -شهريا- (2 علاّوي، 50 جعفري) ومعدّل البطالة (27% علاّوي، 40% جعفري) ومعدّل التضخم (25% علاّوي، 40% جعفري) وتوفّر المياه المحسّنة (81% علاّوي، 54% جعفري) والحجم التقديري لإنتاج النفط -مليون برميل يوميا- (2,25 علاّوي، 1,9 جعفري)، وأخيرا وليس آخراً الناتج المحلّي الإجمالي (25,5% علاّوي، 16,7% جعفري)·
هذه الإحصائيات نشرت من قبل عدد من المراكز المتخصصة ووسائل الإعلام المستقلة كـ''اليونيسيف'' و''البي بي سي'' و''أرمو'' و''سي جي إي إس'' وغيرها، وكل هذه الإحصائيات تشير إلى تراجع خطير في الأداء العام لحكومة السيّد الجعفري مقارنة بحكومة سلفه السيّد علاّوي، ولست هنا لأحكم لصالح أحدهما ضد الآخر لكن لغة الأرقام لا تعرف المجاملات، وربما لو قيّض للعراق رئيس حكومة جديد أن يكون أفضل أداء من السيّدين السالفين مجتمعين وذلك ما نرجوه·
كان هذا استطراداً تجبر عليه الرغبة في التأكيد على أن مستقبل العراق لا يمكن أن يظل مرهونا بأيدٍ غير مؤهلة وأن حكومة العراق لا يجب أن تكون طائفية ذات أفق حزبي ضيّق تنحاز لفئة من الشعب دون أخرى وتخدم بعض العراقيين وتنتهك حقوق البعض الآخر، ولا يمكن لأي سياسي عراقي عاقل أن يطلب من حكومة وطنه أن تدفع مليارات الدولارات تعويضا لإيران عن حربها مع وطنه العراق كما فعل بعض المرتمين في أحضان إيران من ساسة العراق ''الطائفيين الجدد''·
محاولة السيّد الجعفري تصدير إخفاقاته الحكومية إلى السعودية من خلال التلاعب بالتصريحات حول حجاج العراق لن تجديه نفعا أمام الفشل الحكومي الذريع، ولكنها تعطين