في هذه الأيام المباركة يتجه المسلمون إلى بيت الله العتيق، جسدا أو روحا، استجابة لقوله تعالى في سورة آل عمران ''ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين''؛ سبحانه ما أجمل خطابه للناس، فيه أمر وعذر في نفس الوقت، فهو يأمر بالحج وفي الوقت ذاته يعذر من كان له سبب وهو الغني عن كل هذا· لكن الحج فيه منافع كثيرة كما بينت ذلك آيات سورة الحج ''ليشهدوا منافع لهم''؛ ومن أهم هذه المنافع أنه كفارة للذنوب التي تثقل كاهل الإنسان ولا يحس بذلك إلا من أدى هذه الشعيرة، ففي الحديث الصحيح: ''من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه''، وفي رواية مسلم: ''ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة''· ودعوني أقف عند عرفة وقفات علها تكون فاتحة خير لنا جميعا·
يتميز الإسلام عن غيره بأنه دين علم ومعرفة، فكلنا يعرف أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: ''اقرأ باسم ربك الذي خلق''، نعم إنه دين المعرفة والتي تعد القراءة من أهم أدواتها حتى يومنا هذا، وهو مع هذه المعرفة ترك بابا كبيرا للاجتهاد في فهم النصوص وفيما لا نص فيه· العجيب في أمة الإسلام أنها حولت المعرفة إلى مدارس جامدة أسمتها المذاهب، مما زاد في حيرة الناس وأدخلهم في متاهات لا يعقلها إلا القليل من البشر، ومن العجيب في الأمر أنه من يفتح على باب الحج في كتب الحديث يجد نصا معجزا للرسول عليه الصلاة والسلام وكأنه يرى أمته اليوم؛ ففي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ''خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني وما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه''، هذا الحديث يلخص بصورة معجزة ما يجري اليوم في الأمة الإسلامية من اختلاف مذهبي أدى إلى مشاكل كثيرة وبالذات في موسم الحج، فديننا دين الاستطاعة والوسع ''لا يكلف الله نفسا إلا وسعها''، وهو في الوقت نفسه دين المعرفة التي لا ينبغي أن نقيدها ببشر مهما كان تميزهم، فقد اجتهد العلماء لزمنهم في فهم المعرفة الإسلامية، وديننا بحاجة إلى من يجتهد في فهم نصوصه لهذا الزمن، ففي تصوري المتواضع أن الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم جميعا حاولوا التعامل مع الوحي بطريقة أفضل منا بكثير، فاجتهاداتهم إنما كانت لتطوير المعرفة المستقاة من الوحي وإسقاطها على الواقع الذي كانوا عليه وذلك بربطها بالمتغيرات في ذلك الزمن، لكن خلف من بعدهم خلف تناسوا هذه الحقيقة وجمدوا عقولهم وعقول من اتبعهم بارتباطهم بمدرسة فقهية معينة، فجمدت الفتاوى منذ ذلك الزمن، ومن تتبع منا رحلة العلماء يجد حقيقة ما أقوله؛ فالشافعي رضـي الله عنه له فقه في العراق ورأي آخر لما ارتحل إلى مصر، والفقه المالكي من تتبعه يرى نفس المنطق فهــو في المدينة المنورة في مدرسته يختلف تماما عن مدرسة الأندلس لأن علماءه حينئذ استطاعوا ربط معرفة الوحي بواقع الناس، وكم هي حاجتنا اليوم لعلماء يعيشون هذا الزمن ولا يفتون بكل ما قال به الأئمة في زمانهم كي يعينوا الناس على الحياة، ومن يريد الشواهد فلينظر إلى فتاوى البعض للحج في هذا الزمن، كي يعرف الفرق بين المعرفة والجهل، وكي يدرك الفقر المعرفي الذي نعيشه لأننا لم نعرف أن ديننا دين معرفة·