أجمع المتابعون الذين استعرضوا، على جاري العادة، أحداث العام المنصرم وتوقّعاتهم للعام الجديد، على أن العراق كان في صدارة 2005 ويُقدّر له أن يبقى في صدارة ·2006 فتطورات بلاد الرافدين تستقي أهميتها الكبرى من الوجود والتورط الأميركيين هناك، وبالتالي من انعكاس الأمر على مستقبل إدارة جورج بوش والحزب الجمهوري، فضلاً عن عدد آخر من المسائل شديدة الأهمية، كالاقتصاد الأميركي والصلات الأميركية- الأوروبية ومستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي ونظريات بناء الديمقراطية ومكافحة الإرهاب· بيد أن أهمية العراق، فوق هذا كله، ينجم بعضها عن العراق نفسه·
فالبلد، في مجرد أن ننظر إلى الخريطة، يؤثر في إيران وتركيا وسوريا والصراع العربي- الإسرائيلي ومنطقة الخليج وأسعار النفط وخريطة المياه الإقليمية دفعة واحدة· ولا يمكن، بعد الآن، التطرّق إلى قضايا الأقليات، أو الموضوع الكردي، أو مستقبل الأصوليات، والإيراني منها تحديداً، أو العنف بين الجماعات، من غير أن نفكّر في العراق·
لكنْ لئن أمكن وضع عناوين كثيرة للحال العراقية وما يتصل بها، تأثراً وتأثيراً، تبقى المسألة المفتاحية مدى نجاح العراقيين في بناء نظام ديمقراطي أو شبه ديمقراطي· فهنا يكمن المصدر الأفعل للتدخل في باقي العناوين ولرسم الوجهة التي تتخذها·
ولنقل، بادئ ذي بدء، إن موقّع هذه الأسطر، وعلى رغم الانتخابات الأخيرة، أميل إلى التشاؤم· فالديمقراطية، مثلها مثل أية سلعة، تستدعي شرطين لتسويقها: أن يكون هناك عرض جيّد ومقنع لها، وأن يكون هناك طلب عليها إن لم يكن متحمّساً فواعٍ بأهميتها على الأقل·
فما الذي نجده حين نطبّق هذه المعايير على الحالة العراقية التي تجمع بين كونها أهم الحالات الانتقالية، العربية وغير العربية، وكونها الأشد تعرّضاً، في ،2005 للعمليات الاستفتائية والانتخابية؟
قبل كل شيء، لا يمكن التغافل عن أن العرض الأميركي للديمقراطية كان كارثياً، وهو ما لابد من العودة إليه مثنى وثلاثاً من قبيل التذكير بلحظات التأسيس للفشل· فإدارة الرئيس جورج بوش استخلصت، بعد جريمة 11 سبتمبر ،2001 درساً بسيطاً مفاده التالي: إن الإرهاب يأتينا من العالمين العربي والإسلامي بسبب غياب الديمقراطية فيهما· ولأن الحكام يريدون المضي على رأس أنظمة مستبدة، فإنهم شاركوا ويشاركون في توجيه غضب شعوبهم باتجاه الغرب وإسرائيل· وعليه، يكون الخلاص بتقديم الديمقراطية لهذه الشعوب·
صحيح أن في ذاك التوصيف قدراً من الحقيقة إلا أنه لا يوجز الحقيقة كلها· وصحيح أن الديمقراطية أفضل الأنظمة السياسية التي عرفتها البشرية حتى اليوم، بيد أن الوصول إليها لا يتم بمجرد توافر النوايا الحسنة· كذلك فالإقرار بأهمية الديمقراطية وصلاحها لا يكفيان، قفزاً فوق المعطيات الأخرى جميعاً، للافتراض بأن شعب العراق، وسائر شعوبنا، سوف تقع في غرام هذه الديمقراطية بمجرد أن تلوح في الأفق·
والحال أن التبسيط الأميركي هذا، المسكون بجرعة مرتفعة من التفاؤل البروتستانتي، وجد أوضح تطبيقاته في بلاد الرافدين· فمجرد أن تشن الولايات المتحدة حرباً لإسقاط الاستبداد الصدّامي، فهذا معناه أن المجتمع العراقي ليس مهيّأ لإسقاط ذاك الاستبداد واستبداله بنظام وطني ديمقراطي تُصان معه وحدة الشعب والبلد· مع هذا، وعملاً بالتبسيط إياه، ظُنّ أنه ما أن تصل الديمقراطية حتى لا يُسمع من الأصوات إلا تهليل الشعب لها· عند ذاك يختفي كل شيء ما عدا الديمقراطية وحبّها الذي يتوحّد حوله العراقيون!
وهي السياسة التي تفسّر، إلى هذا الحد أو ذاك، سبب التقليل من أعداد الجنود الأميركان أصلاً، ثم إبقاء الأسلحة بين أيدي المواطنين العراقيين، وبعد ذاك حل الجيش· ذاك أن خرافة الإجماع العراقي المفترض حول الديمقراطية أقنعت واشنطن بأن ما يبدؤه جيشها، ذو التقنية المتقدمة التي تُغني عن العدد الكبير من المقاتلين، إنما يكمّله العراقيون التوّاقون لبناء الديمقراطية·
بعد ذاك، يكون السلاح المتوافر في أيدي السكان سلاحاً للدفاع عن الديمقراطية إياها فيما لا تعود ثمة حاجة للجيش لأن الشعب مجمع كله على الديمقراطية (فيما الولايات المتحدة تتولى أمن البلد على الحدود)·
وكان طبيعياً أن يتكامل هذا المنطق مع إلحاح آية الله علي السيستاني على التعجيل في إجراء الانتخابات، لا حباً بالديمقراطية، بل رغبةً في تسريع الترجمة الطائفية للتحوّل السلطوي بالاستفادة من ''الهيصة'' الديمقراطية الأميركية·
هكذا حصلت الانتخابات قبل تأمين أيٍ من شروطها اللازمة: كتحريك دورة اقتصادية، وإشاعة الطمأنينة حيال الأعناق والأرزاق، ومباشرة عملية التقريب بين طوائف العراقيين وإثنياتهم· وغني عن القول إن الأمة، مطلق أمة، حين تتجه إلى صناديق الاقتراع وهي قلقة ومتوترة ومحتقنة وفقيرة، توصل إلى المجلس أكثر قادتها تعصباً وضيقاً·
لكن ما هو أبعد من ذلك أن ''الهيصة'' الديمقراطية تترك دعاتها وأصحابها في موقع حرج: فإذا أفضت الانتخابات إلى نجاحات تحرزها أط