يعتبر المؤرخون الأوروبيون أن الاتحاد الأوروبي تعرض خلال عام 2005 إلى أحداث مهمة كانت جيدة في مجملها· لكن القناعة السائدة حالياً لدى معظم الرأي العام الأوروبي تقف على نقيض ذلك، استناداً إلى أن السنة المنتهية كانت بحق سنة الهزائم· فبالنسبة للمتشائمين سجلت سنة 2005 قطيعة مع الحلم الأوروبي في التوسع شرقاً، والفشل في تحقيق الاندماج الاقتصادي لكافة أعضائه تجلت أوضح مظاهره مع الإخفاق الذي مني به مشروع الدستور الأوروبي· بيد أن المتفائلين بمستقبل الاتحاد الأوروبي رأوا في عدم المصادقة على الدستور ما يمكن تسميته بالضارة النافعة التي جنبت الاتحاد الأوروبي مواجهة أخطار قاتلة·
وفي هذا الإطار يصر بعض المراقبين على أنه بالإخفاق في تمرير الدستور الأوروبي، يكون الاتحاد قد فشل فعلاً في اختبار استكمال الاندماج الكامل للدول الأوروبية، وتوسيع دائرة الاتحاد باتجاه الحدود الشرقية· لذا توالى الشعور بالمرارة والحسرة لدى المحللين الأوروبيين وكان آخره ما جاء في الكتاب الأخير لوزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر الذي أشار إلى أن أوروبا أضاعت فرصة تجاوز معاهدة ويستفاليا التي رسمت حدود الدولة القومية في أوروبا، وارتياد آفاق جديدة تضع حدا للتنافس بين القوى العالمية وتمهد الطريق أمام نظام عالمي يسوده السلم والتعاون· غير أن مفهوم السيادة الوطنية ظل قائماً متجاوزاً الاعتبارات الأخرى بعدما صوتت الشعوب الأوروبية ضد الدستور الأوروبي· لقد تهاوت الأحلام التي كانت تداعب عقل فيشر، كما عقول العديد من السياسيين الأوروبيين في أن يتم تحقيق التكامل الاقتصادي بين أعضاء الاتحاد والدفع به شرقاً ومن ثم تصدير النموذج الأوروبي القائم على التعاون بدل التنافس إلى باقي العالم، خصوصا وأن تلك التطلعات كانت مرتبطة بشكل أساسي بإقرار الدستور الأوروبي لما يمنحه من إطار مرجعي يشرعن الأحلام الأوروبية ويمنحها سبل التبلور على أرض الواقع·
بيد أن التصور الأوروبي المثالي القائم على نسف السيادة الوطنية لصالح سيادة أشمل تحت مظلة اتحاد أوروبي يمتلك هياكل تنفيذية وبرلمانية اصطدم بمخاوف الرأي العام الذي لم تنضج عنده بعد فكرة التخلي عن سيادته الخاصة· ويشير سقوط مثل هذا التصور ليس فقط إلى وجود العراقيل القومية التي مازالت قائمة، بل يعكس أيضاً تفسيراً متفائلا لدروس التاريخ وعبره، ذلك أن إعادة توزيع السيادة بين الدولة والاتحاد لصالح الأخير يستدعي أولاً قدرة أكبر على التحكم في حياة الشعوب، وهو ما يتعذر في ظل الأنظمة الديمقراطية السائدة في أوروبا حالياً· كما أن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه التحرك إلا بموافقة مسبقة من قبل كافة الأعضاء· وبالرغم من أن توسيع الاتحاد الأوروبي كان من شأنه مد الجسور مع العالم الإسلامي وترويج النموذج السلمي الأوروبي من خلال ضم تركيا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق مثل جورجيا وأوكرانيا التي مازالت تئن تحت وطأة الاضطرابات السياسية، فإن ذلك لم يخضع لنقاش أوروبي مستفيض ينكب على آثار ذلك الانضمام على هياكل الاتحاد الأوروبي من جهة، وقدرته على العمل بشكل فعال وناجع من جهة أخرى·
ولا تقتصر صعوبة العلاقة بين غرب أوروبا وشرقها في سعي دول أوروبا الشرقية الالتحاق بسفينة الاتحاد الأوروبي، بل تمتد بعيداً في التاريخ حيث الحدود بين الجانبين لم تكن دائماً واضحة، خصوصا في ظل الصراعات التي كانت قائمة في أوروبا القرون الوسطى بين مختلف الأسر الحاكمة في ذلك الوقت· وبالرغم من التأثير المتبادل بين شرق أوروبا وغربها مثل بقايا النفوذ الكاثوليكي في أوكرانيا، والترابط الأرثوذوكسي في رومانيا بالثقافة اللاتينية في أوروبا الغربية، إلا أن الحدود الدينية والثقافية بين الجانبين مازالت قائمة ويصعب، حتى في الوقت الحاضر، اختراقها· إلى ذلك يمكننا تتبع الجذور الفكرية لتطلعات الاتحاد الأوروبي في إرساء نموذج جدير بالاحتذاء في العالم بعد سقوط الشيوعية وانهيار التطبيقات الماركسية إلى المفكر الأميركي ذائع الصيت فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب ''نهاية التاريخ''· وهو المفكر الذي أعطى زخما للنموذج الأوروبي بعدما بشر بانتصار الغرب في آخر معركة أيديولوجية، وبسيادة عالم ينعم بجو من السلم ويظلله التعاون المتبادل في إطار التقدم نحو مستقبل مشرق·
غير أن فوكوياما نفسه لم يكن سوى مرآة تعكس أفكار وتصورات عصر التنوير الأوروبي الذي استبدل الدين القائم على مباركة الله لخطوات الإنسان على الأرض وإمساكه بمصيره بالتقدم المرتكز على قيم العقلانية والقوانين الوضعية التي تفتح الطريق أمام الإنسان إلى الارتقاء في سلم التقدم والتطور· وهي الأفكار التي ساهم في ترسيخها كوكبة من كبار مفكري وفلاسفة أوروبا مثل هيجل وماركس وشبنجلر وغيرهم من رواد الفكر الذين أسسوا لفكرة التقدم وتحقيق الرفاه للإنسان· وبالطبع لم تبق تلك الأفكار حبيسة الكتب والمجلدات بين أسوار الجامعات، بل كان لها أثر بالغ على الحياة السياسية والاقتصادية في أوروبا حيث ساهمت في ت