إن كانت الصين تتفوق في تخريجها للمهندسين بمعدل ثماني مرات من حيث العدد السنوي على أميركا، فهل يعني ذلك تقدم الأولى على الثانية في السباق التكنولوجي المحموم بينهما؟ ذلك هو ما يعتقده الكثير من السياسيين، إثر نشر تقرير رفيع المستوى عن هذا الموضوع من قبل مؤسسات أكاديمية قومية مرموقة في شهر أكتوبر الماضي· ويبدأ ذلك التقرير إحصاءاته المقارنة على هذا النحو: تخرج الصين سنوياً 600 ألف مهندس، في حين لا يزيد عدد المهندسين الذين تخرجهم الجامعات والكليات الأميركية على 70 ألفاً فحسب· بل إن الهند التي تخرج جامعاتها اليوم 350 ألف مهندس سنوياً، تتفوق هي الأخرى على أميركا في هذا المجال! هذه المقارنات، إنما تعتمد في نهاية المطاف على تعريف من يحللها لمفهوم الهندسة· فهل يقتصر تعريف المهندس على أولئك الخريجين الذين يكملون مدة أدناها أربع سنوات من التعليم الجامعي الهندسي، أم أنه يشمل من يتلقون عامين دراسيين من التعليم التقني الهندسي، سواء في الكليات أم الجامعات، أم حتى مهندسي السيارات في الحالة الصينية؟
ولدى إجراء مقارنات وإحصاءات أكثر موضوعية ودقة -مثل تلك التي أجرتها في الآونة الأخيرة جامعة ''ديوك''- يتضح أن القدرة التنافسية للولايات المتحدة في المجال الهندسي، ليست هي بسرعة التراجع التي يتحدث عنها البعض، هذا إن كان ثمة تراجع أصلاً· وعلى حد الدراسة التي نشرتها جامعة ''ديوك''، فإن هناك من ينشر التقارير والإحصاءات غير الدقيقة عن موقف الولايات المتحدة في المجال التكنولوجي والهندسي، بقصد إثارة حالة من الخوف وترسيخ انطباع زائف عن أنها بدأت تفقد صدارتها وسبقها في هذا المجال الحيوي· لكن وعلى نقيض مثل هذه الإحصاءات، فإن المقارنات الفعلية الموضوعية، تبين أن الولايات المتحدة لا تزال تحافظ على مركزها، من حيث عدد خريجيها في المجالات الهندسية وعلماء الكمبيوتر واختصاصيي تكنولوجيا المعلومات، وأن قدرتها التنافسية لا تزال عالية على المستوى الدولي·
وهناك من يرى أن الحديث الدائر الآن عن قدرة الولايات المتحدة على المنافسة في المجال الهندسي، إنما يشبه في وجه من الوجوه، حوارات وخلافات فترة الحرب الباردة حول ما سُمي حينها بـ''الفجوة الصاروخية'' بين أميركا والاتحاد السوفيتي· وكان الخطأ في موقف من يرون تفوق الاتحاد السوفييتي على أميركا من حيث عدد الصواريخ، يكمن في عدم موازنتهم لإحصاءاتهم تلك، بنوعية ودقة ترسانة الأسلحة النووية الأميركية، قياساً إلى كفاءة ودقة منافستها السوفييتية· وتعليقاً على ذلك قال فرانك هوباند المتحدث باسم ''الجمعية الأميركية للتعليم الهندسي'' بواشنطن، إن مثل ذلك الجدل الذي دار فيما مضى خلال فترة الحرب الباردة حول الفجوة الصاروخية وما بعد الفجوة الصاروخية -إثر انهيار حائط برلين- هو نفسه الذي يدور اليوم عن الفجوة الهندسية·
وبعد، فإننا نعيد طرح السؤال مجدداً: هل تواجه أميركا الآن فجوة هندسية؟ ذلك هو ما تعتقده مجموعات كثيرة لها صلة بالمجال الهندسي التكنولوجي، منها مثلاً ما نشرته مجموعة ''المائدة المستديرة للاستثمارات'' ونحو 14 مجموعة أخرى غيرها، في تقرير دعت فيه الصيف الماضي، إلى مضاعفة عدد خريجي الكليات الهندسية في الولايات المتحدة، قياساً إلى ما رأته من تفوق صيني في هذا المجال· وفي حديث لها أدلت به الشهر الماضي، قالت نانسي بيلوسي، زعيمة الأقلية بمجلس النواب الأميركي: ''يلاحظ أن الصينيين ينشغلون بالاستثمارات الضخمة في تحسين نظمهم التعليمية وإنشاء جامعات ذات مستوى عالمي، لا سيما في مجال العلوم والتكنولوجيا· وبالمقارنة، فإن جامعاتنا لا تخرج إلا أعداداً قليلة جداً من خريجي الرياضيات والعلوم''·
غير أن هناك من الباحثين من يرى أن ثمة مبالغة في نشر المخاوف حول ما يزعم أنه تخلف علمي تكنولوجي أميركي· ويقول هؤلاء إن شركات القطاع الخاص بالذات، تسهم إسهاماً واضحاً في إثارة سحابة كثيفة من الغبار حول الحقائق، وذلك حتى يتسنى لها استخدام العمالة الرخيصة الأجنبية في المجال الهندسي والتكنولوجي· وذلك هو ما يراه رون هيرا -خبير هجرة الوظائف والعمالة الأجنبية بمعهد روشستر للتكنولوجيا- بقوله إن الشركات الخاصة على وجه التحديد، تسعى لصرف الأنظار عن مشكلة هجرة الوظائف والعمالة الأجنبية، وتحويلها إلى مشكلة التراجع الهندسي الأميركي المفتعلة· وعليه فإنه لا توجد مشكلة فعلية تتعلق بنقص عدد المهندسين في الولايات المتحدة الأميركية· هذا وتقدم الهند مثالاً ساطعاً ومقنعاً على الكيفية التي تؤول بها تلك الإحصاءات، والمقارنات الخاطئة بينها وبين أميركا في المجال الهندسي التكنولوجي· وبالاستناد إلى الإحصاءات نفسها، سيتضح لنا كم هو خاطئ ومضلل ذلك الرقم المنسوب إلى الهند فيما يتعلق بتخريجها العام الماضي حوالى 350 ألفاً من المهندسين· فعلى إثر الإعلان عن ذلك الرقم في شهر أكتوبر الماضي، قامت الأكاديميات القومية بمراجعته والتحقق منه، لتكتشف أن الرقم الفعلي هو 200 ألف فحسب في دراسة أصدرتها