ها نحن ندخل عاما جديداً، لكن خوفاً قديماً يظل جاثماً على صدورنا· كيف لا والأمر يتعلق بديك تشيني، نائب الرئيس الذي يؤمن بالتنصت غير المحدود على الأميركيين حتى من دون تفويض قضائي· وقد بلغت به الرغبة في الحفاظ على سريته إلى درجة أنك لو طلبت من محرك ''جوجل'' البحث عن محل الإقامة الرسمية لنائب الرئيس في واشنطن، فإنك لن تحصل سوى على صور غير واضحة تم العبث بها عمداً لإخفاء المقر· وفي حين تستطيع بسهولة مشاهدة صور ملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية للبيت الأبيض والبنتاجون ومقر الكونجرس، إلا أنك لن تعثر على عرين ملك العالم السفلي، ديك تشيني· ومع أن نائب الرئيس مهووس بخصوصيته الشخصية ويتصرف كرئيس فعلي كما يبدو، إلا أنه قليل الاهتمام بخصوصية الآخرين·
من جانبها لم تنتظر ''جوجل'' طويلا حيث قامت الشركة بإطلاع ''نيويورك تايمز'' على محاولات تشيني حجب مقر إقامته الرسمية، خصوصا بعدما كانت الصحيفة قد نشرت في وقت سابق مقالاً يشير إلى المخاوف التي يثيرها لدى البعض عرض ''جوجل'' صوراً مفصلة لبعض الأماكن مثل مقار الحكومات والمواقع العسكرية في مختلف مناطق العالم· وبالرغم من أن ''جوجل'' سعت إلى الحصول على صور مقر تشيني من شركة خاصة وإتاحتها للعموم، إلا أنها ظلت مشوشة وغير واضحة ما دفع ''نيويورك تايمز'' إلى نشر ملاحظة توضيحية تقول فيها ''رغم أن صور المقرات الأخرى في واشنطن باتت واضحة ومتاحة للجميع، إلا أن الصور الخاصة بالمقر الرسمي لديك تشيني مازالت مشوشة''· وليس ذلك غريبا على نائب رئيس حوَّل أميركا إلى آلة تصوير تراقب الأميركيين وتقوم بتزييف الصور المقدمة إليهم·
وبالرغم مما يقال عن النساء عموماً من أنهن لا ينسين الإساءات القديمة وتظل تغلي في صدورهن كي تنفجر كالقنابل في الوقت المناسب، فإن الثنائي رامسفيلد وتشيني أثبت أن ما يعتمل في صدريهما من نوايا يفوق بكثير فورة النساء· فقد كانت سنوات خدمتهما في إدارة الرئيس الأسبق جيرالد فورد والضعف الذي كانا يشعران به يومئذ جراء افتقادهما للصلاحيات الكبيرة كفيلة بتأجيج مشاعر الانتقام لديهما والرغبة في احتكار السلطة التنفيذية· ففي ظل المناخ الجديد الذي أعقب فضيحة ''ووترجيت'' وتقلص صلاحيات السلطة التنفيذية بتنفيذ عمليات سرية فقد كل من رامسفيلد الذي كان كبير الموظفين في إدارة فورد ثم أصبح وزيرا للدفاع، وتشيني الذي خلفه في منصب كبير الموظفين السلطات التي كانا يرغبان فيها بعدما مالت كفة السلطة مجددا لصالح الكونجرس· وجاء ذلك متزامنا مع العصر الذهبي للصحافة خلال السبعينيات حيث وصلت ذروة قوتها عندما ساهمت في تشكيل الرأي العام إزاء حرب فيتنام، ولعبت دوراً أساسياً في كشف فضيحة ''ووترغيت''· حينها كان المراسلون يتمتعون بحرية أكبر في الحصول على الأسرار الحكومية محتمين بقانون حرية المعلومات· وبالطبع لم يكن الأمر ليروق كثيراً للثنائي رامسفيلد وتشيني اللذين اعتقدا بأن الكونجرس يحتكر سلطات ترجع في الأصل إلى البيت الأبيض· لذا قضى أصدقاؤنا طيلة الثلاثين سنة الماضية يحلمون بإعادة نفخ عضلات البيت الأبيض التي أصابها الوهن طيلة الفترة السابقة· وعندما أعلن تشيني نفسه نائبا للرئيس استقدم معه رامسفيلد لتكتمل الحلقة في أكثر الإدارات الأميركية تضخما في قوتها· ولم يكن بوش ليعترض على ذلك ما دام يتشبث بشعار العائلة ''نحن نعرف أفضل، ثقوا بنا''·
ولعل أول ما قام به وصيا الحكم تشيني ورامسفيلد هو إعادة عقارب الساعة إلى حقبة نيكسون مستلهمين منها الإفراط في استخدام السلطات الرئاسية كالتنصت على الناس وغيره· والأكثر من ذلك جاء وزير العدل السابق جون أشكروفت ليدشن العهد الجديد لتشيني ورامسفيلد من خلال إجهازه على قانون حرية المعلومات واضعا وسائل الإعلام في وضع حرج يصعب معه الوصول إلى مصادر المعلومات الحكومية وممارسة دورها المفترض في الرقابة وتصويب الأخطاء· وفي هذا السياق ظل طلب أحد صحفيي ''نيويورك تايمز'' الموجه إلى وزارة الدفاع بالحصول على معلومات تتعلق بوثيقة أعدتها شركة ''هاليبرتون'' قبل الحرب على العراق حول كيفية الاستفادة من نفط بلاد الرافدين في أدراج مكاتب البنتاجون دون الحصول على أي رد· ولم يكن نائب الرئيس وهو يدافع في الأسبوع الماضي عن التنصت على المكالمات الهاتفية دون تفويض قضائي، إلا تعبيراً عما يختلج في صدره من حقد قديم إزاء تحجيم سلطات الرئيس التي طالت الرئاسة عقب فضيحة ''ووترغيت''، حيث جاء على لسانه ''أعتقد أنه بالنظر إلى ما نعيشه اليوم من تهديدات، وهي نفس التهديدات التي كانت قائمة خلال الحرب الباردة ومازالت مستمرة معنا لابد أن تبقى سلطات الرئيس الدستورية قوية، خصوصا فيما يتعلق بسياسته في الحفاظ على الأمن القومي''· والرسالة واضحة لا لبس فيها وتدعو الكونجرس والصحافة بصريح العبارة إلى البقاء في الصفوف الخلفية وترك الملعب خاليا للثنائي تشيني ورامسفيلد كي يرتعا فيه دون مضايقات من أحد· أما تلك القيم والمثل التي نشأنا عليها في القرن العشرين مثل فص