جلطتان سيطرت آثارهما على ساحة المنافسة الانتخابية في إسرائيل خلال الأيام الماضية، الجلطة الأحدث هي جلطة الدماغ التي أصابت شارون وشجعت خصومه السياسيين على ترويج دعايتهم المضادة ضده وضد حزبه الجديد ''كاديما'' على أساس قياس صحة الرجل المرشح لرئاسة الحكومة لأربع سنوات إذا فاز في انتخابات مارس المقبل· المدهش أن هذه الدعاية المضادة لم تؤت ثمارها المرجوة من جانب الخصوم، فقد سارع الجمهور فور مغادرة شارون للمستشفى في زمن قصير وقياسي إلى التعبير في استطلاعات الرأي عن تأييد حزب ''كاديما'' بما يحقق له أربعين مقعداً في الكنيست، بل ومنح الجمهور ثقته الشخصية لشارون عندما سئل عن الشخص الأفضل لتولي الحكومة الجديدة· حصل شارون على تأييد ستة وأربعين في المئة بينما حصل نتنياهو زعيم ليكود المنتخب على تأييد تسعة عشر في المئة في حين حصل عامير بيريتس زعيم حزب العمل على أقل نسبة تأييد وهي أربعة عشر في المئة·
ومن الواضح للمراقبين أن شعبية شارون تعتمد على قدرته على الجمع بين صفة رجل الأمن الشرس وبين سمة السياسي المرن المستعد لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين وفتح الباب لعملية السلام بما تشمله من أمن للإسرائيليين ومكاسب في أراضي الضفة الغربية· وهنا نتبين ملامح الجلطة السياسية التي يعانيها ليكود والتي تبلورها صياغة شارون لأسباب انسحابه منه وتكوين حزبه الجديد عندما قال إنه لم يعد يستطيع العمل من داخل ليكود لتحقيق السلام بعد اعتراض المتطرفين داخله على خطة الانسحاب من قطاع غزة·
لقد تنافس على زعامة ليكود في التاسع عشر من ديسمبر أربعة مرشحين، ثلاثة منهم يجسدون التطرف الأيديولوجي الصهيوني ويمثلون حالة افتقار المرونة السياسية اللازمة لتحقيق السلام، وواحد فقط معروف باعتداله النسبي وهو سيلفان شالوم وزير الخارجية· في مقدمة الثلاثة المتطرفين جاء نتنياهو الذي بدأ حياته السياسية بمعارضة شديدة لاتفاقيات أوسلو وبالتحريض ضد إسحاق رابين رئيس الوزراء الذي وقع هذه الاتفاقيات، وهو ما أجج مشاعر اليمين المتطرف ضده وانتهى باغتياله·
أما الثاني بين المرشحين المتطرفين فهو يسرائيل كاتس الذي اشتهر في حياته كطالب جامعي بتنفيذ سلسلة اعتداءات بدنية على الطلبة العرب بالجامعة، ثم تدرج في قيادات ليكود اعتماداً على مواقفه المتطرفة التي توجها بالمعارضة الشديدة لسياسة شارون وخطته للانسحاب من غزة· أما الثالث فهو موشي فيغلين، وهو من أبرز قادة المستعمرين والرافضين لأي انسحابات، وانضم هو ومئات من أتباعه إلى ليكود منذ عامين معلناً أن هدفه هو دفع ليكود لبناء قيادة يهودية للدولة·
لقد جسد هؤلاء المرشحون الثلاثة إذن أمام الرأي العام الإسرائيلي جلطة ليكود السياسية المتحجرة· مع فوز نتنياهو بزعامة الحزب يبدو أنه أفاق إلى أن صورة الحزب اليميني المتطرف ستؤدي به إلى هزيمة فادحة في الانتخابات العامة· ومن هنا بدأ محاولة للتخلص من فيغلين وأتباعه داخل الحزب متصوراً أن التخلص من زعيم المستعمرين المتطرف سيؤدي إلى تحسين صورة الحزب وإكسابه ملامح الاعتدال أمام الرأي العام·
إن هذه المحاولة يمكن من الناحية النظرية أن تؤدي إلى تعديل طفيف في صورة ليكود، لكنها لن تؤدي إلى تصحيح كامل لصورته· ذلك أن نتنياهو نفسه كان موضع اتهام مع معسكر اليسار عام 1995 بأنه المسؤول بموجة الكراهية التي أثارها ضد رابين عن تهيئة البيئة السياسية المناسبة لقيام الشاب إيجال عامير المتدين المتطرف باغتياله· كذلك فإن عملية التكيف التي حاول نتنياهو القيام بها مع اتفاقيات أوسلو بعد انتخابه رئيساً للوزراء عام 1996 قد انتهت إلى فشل ذريع نتيجة لتجميده هذه الاتفاقيات وسد المنافذ أمام التقدم في عملية التسوية، ناهيك عن دوره أخيراً في شن حملة تحقير ضد شارون وسياسته داخل ليكود مما أجبر الأخير على الانسحاب وتشكيل حزبه الجديد·
إن نتنياهو لا يملك سياسة واضحة حيال التقدم في العملية السلمية على عكس شارون، الذي ارتفعت شعبيته بعد أن صرح أحد مستشاريه لمجلة أميركية أنه مستعد للتخلي عن تسعين في المئة من الضفة وتقسيم القدس· ورغم نفي شارون لصحة هذه التصريحات فإن إعلانه بنفسه عن الالتزام بخطة خريطة الطريق منحه أمام الجمهور صورة السياسي الذي يملك خطة على نحو كافٍ من الوضوح·
إن الأسابيع القادمة ستكشف ما إذا كان نتنياهو يملك شجاعة الاقتراب من طموحات الجمهور في السلام والأمن مع مكاسب في الأرض أم أنه حبيس لأيديولوجية التطرف؟