إن تحقيق النجاح العلمي يمر عبر النجاح والفشل، وشيئا فشيئا ندرك كيفية اشتغال العالم عبر إدراكنا أن ما كنا نعتقد أحياناً أنه صحيح إنما هو خطأ في واقع الأمر· إن العلم يعلمنا أن ندقق النظر إلى الأمور لفهمها وإدراكها· ونحن لا نقرر ما إن كانت نظرية ما صحيحة وصائبة إلا عندما تثبت صحتها عبر التجربة وتكرار التجربة، وعندما لا تنجح عند تكرار التجربة، نتعلم درساً وندرك أن تلك حدود الممكن في الوقت الراهن، فإذا كان العلم صحيحاً فلأنه لا يمكن أن يسلم به بسبب الإيمان وحده·
إن ما شهده العالم مؤخراً يعتبر تطوراً مأساوياً لسلسلة مبهرة من النجاحات العلمية في مجال الأبحاث المتعلقة بالخلايا الجذعية، التي أثارت اهتمام وحماس العلماء وشكلت بارقة أمل بالنسبة للأطباء الذين يبحثون عن طرق للعلاج عبر صناعة أنسجة جديدة يمكنها أن تعوض الأعضاء والخلايا العصبية والعظام والعضلات التي تعرضت للتلف بسبب الجروح أو الأمراض·
كيف تم اكتشاف ذلك؟ عوامل مختلفة تراوحت ما بين النزاهة الفكرية تارة ووسائل الإعلام المتشككة تارة أخرى ساهمت جميعها في تناقل ما بدا في ظاهره نجاحاً علمياً، حيث اكتشف العالم، أو هكذا يبدو، خلال السنتين الماضيتين مهارات باحثين كوريين جنوبيين في جامعة سيئول الوطنية وتفانيهم في العمل ومراعاتهم للجوانب الأخلاقية في البحث العلمي· وبدا وكأن هؤلاء الباحثين ليسوا أول من نجح في استنساخ أول أجنة بشرية واستخراج خلايا جذعية منها فحسب، وإنما أيضا أول فريق علمي ينجح في استنساخ كلب، وهو الكلب الذي عرف باسم ''سنابي''·
وعودة لموضوع بحثه الذي كان محل انتقادات حادة، ادعى فريق الباحثين المذكور قدرته على إنتاج خلايا جذعية متطابقة مع الحمض النووي لبعض المرضى بكل فعالية ونجاح، وهو ما بدا حينها قفزة علمية عملاقة ستتيح إنتاج الأنسجة البشرية القابلة للزرع· غير أن التقارير الأولية التي أصدرتها يوم الجمعة الفائت لجنة تحقيق بجامعة سيئول الوطنية أفادت بأن 9 من أصل 11 من مجموعة الخلايا الجذعية كانت على ما يبدو مفبركة·
لقد صدقنا البحث لأننا أعجبنا بفكرة العالم المجتهد القادم من وسط متواضع في دولة صغيرة ومفعمة بالحماس والطموح، العالم الذي يثابر ويجتهد مستخدما معارفه العلمية، يساعده في ذلك فريق متفانٍ من الباحثين الذين يعملون على مدار الساعة في سبيل الإنسانية· كما أعجبنا بكون باحثين من كوريا الجنوبية يعملون في إطار تعاون ''أخوي'' يضم العلماء الأميركيين·
وبدا أن بحث الفريق الكوري الجنوبي لم يغفل دور الجوانب الأخلاقية أيضا، حيث شارك الفريق في ندوات عامة تطرقت للقضايا الأخلاقية وعلاقتها بالبحث العلمي، مشددين على ضرورة اعتماد معايير أخلاقية صارمة، كما أتوا بفلاسفة وعلماء دين ومحامين ومهتمين بالقضايا الأخلاقية بغرض تحديد القواعد التي تضبط عملية التبرع من دون كشف هوية المتبرعات ببويضاتهن دون مقابل· ونتيجة لذلك، ما كان من المتخصصين في القضايا الأخلاقية -وأنا واحد منهم- إلا أن يقفوا إلى جانبهم ويشجعوهم بعدما نشرت مجلة ''ساينس'' المتخصصة والرصينة إنجازهم العلمي الجديد·
ولكن بعد ذلك بفترة أعلن اثنان من العلماء البارزين في فريق البحث في وسائل الإعلام الدولية أنهما سينفصلان عن الفريق، فيما دعا عالم آخر إلى إجراء تحقيق بخصوص البحث برمته، تاركين الدكتور ''هوانغ وو ساك'' الذي لقب بـ''العلامة'' لوحده ليدافع ويشرح·
ثم ما فتئت التهم والتهم المضادة تتصاعد وتطفو على السطح -بدءاً بسوء التسيير، ثم ممارسة الخداع، فمحاولات التغطية على الخداع· وهكذا، وصفت التسريبات الصحافية أن ما بدا وكأنها عملية تبرع طوعية بالبويضات إنما هي في الواقع كذبة، وبأن أحد أعضاء فريق البحث، وهو الذي كان مكلفاً بعملية التخصيب في المختبر، دفع المال مقابل الحصول على البويضات· كما كشفت وسائل الإعلام أن باحثتين ضمن الفريق اضطرتا إلى التبرع ببويضاتهما بشكل سري بعدما فشلتا في الحصول على بويضات خدمة لأهداف المشروع· ولما كشف أمرهما، طلبتا عدم الإفصاح عن هويتهما· ولكن حين نشرت وسائل الإعلام الخبر، أنكرت الباحثتان بشدة في البداية، إلا أنهما سرعان ما عادتا بعد ذلك للاعتراف والاعتذار·
لقد تعرض العلم نفسه للهجوم -من قبل نفس الأشخاص الذين كانوا يسمون بعضهم بعضاً إخواناً، وبدا حينها كما لو أنهم يقصدون ما يقولون بالفعل· وهكذا توالت تصريحات العلماء الصحفية لوسائل الإعلام المتهافتة، كاشفين النقاب فيها عن أمور فظيعة كالكذب وتخريب المعطيات وغيرها· واتضح أن فريق البحث الكوري الجنوبي لطالما عرض على وسائل الإعلام صورا مزورة ومعطيات غير حقيقية، ولكن ساعة الحقيقة قد دقت الآن لتؤكد لنا لجنة التحقيق من جامعة سيئول الوطنية هذه الحقائق المرة·
يرى العديد من الناس أن هذه القصة تشبه إلى حد كبير أشياء جربوها بأنفسهم أو سمعوا عنها -المقارعة بالصور والرسوم البيانية التي لا يمكنك التحقق من صحتها، كما لا يمكنك في الواقع تصديقها· غير أن الأمر مختلف هذه