بعد انتخابات العراق تتجه الأنظار نحو انتخابات فلسطين! وتتكرر الفصول والمشاهد والأخطاء الدولية ذاتها في التعامل معها· يتبدل اللاعبون، ولا تتبدل الأدوار، بل ثمة تبادل للأدوار· في الماضي، كان الأميركيون يصرّون على إجراء انتخابات في مناطق السلطة الفلسطينية للتأكيد أن السلطة تسير في اتجاه تكريس الديمقراطية، التي هي عنوان ''وهوس'' الحسابات الأميركية أو المخططات الأميركية في المنطقة! قررت السلطة الانتخابات وكانت خلافات بين إسرائيل والرمز ياسر عرفات· كما كانت أزمات بين الإدارة الأميركية وهذا الرمز، والسبب بسيط: أبو عمار لم يلب كل الطلبات· لم يتنازل عن الثوابت الأساسية كما كانوا يتوقعون· بدأ الضغط عليه· حوصر مرات· هدّد مرات· ارتكبت مجازر ضد أبناء الشعب الفلسطيني· أخضعت السلطة وسقط اتفاق ''أوسلو''· وبدأ الحل ''يزّم'' حتى وصلنا إلى خريطة طريق هي بدورها ''تزّم'' اليوم -أي تتقلص- ومعها ''تزّم'' الأراضي الفلسطينية من خلال جدار الفصل العنصري والإجراءات التي تتخذها قوات الاحتلال في إطار السياسة التوسعية وبناء المستوطنات· يومها قبل ''أبوعمار'' التحدي· دعا إلى انتخابات· وبمجرد تحديد موعد لإجرائها هددت الإدارة الأميركية الشعب الفلسطيني بوضوح :''إذا انتخبتم ياسر عرفات رئيساً لن تكون لكم مساعدات''! إذاً، ما قيمة الانتخابات؟ وما هو تعريف الديمقراطية؟ كيف تمارس؟ وكيف يختار الشعب الفلسطيني قيادته؟ فساهمت في عزله وحصاره وشن الحملات عليه ووقف المساعدات لسلطته وشعبها· ونفذت إسرائيل في المقابل تهديداتها المتكررة مستفيدة من الخطأ الأميركي وانقضّت على السلطة الفلسطينية ومناطقها باجتياحات متتالية لها، وبتدمير مبرمج لكل البنى التحتية والمخيمات الكبرى وبارتكاب المجازر الجماعية ضد المدنيين واعتقال الآلاف منهم·
اليوم يتكرر المشهد ذاته وإن تبدلت الأدوار· في الانتخابات البلدية فازت حركة ''حماس'' بعدد من المراكز الأساسية المهمة أثبتت حضورها مرة جديدة في ظل تراجع في مواقع السلطة عموماً وحركة ''فتح'' خصوصاً· لقد غاب الرمز التاريخي لفلسطين و''فتح'' والسلطة، وترك ذلك أثراً كبيراً سلبياً عليها! هم تراجعوا و''حماس'' تقدمت· و''حماس'' تقدمت سياسياً وميدانياً وهي لا تزال تلتزم بالتهدئة مع إسرائيل التي أبرمت منذ أشهر! ومع الإعلان عن بدء التحضير للانتخابات التشريعية الشهر المقبل ارتفعت الأصوات من داخل أوروبا هذه المرة لتعلن على لسان كبار المسؤولين :''إذا شاركت حماس في الانتخابات وإذا نجحت فيها فلن تقدم مساعدات للسلطة الفلسطينية''· نعم، الموقف الأميركي السابق تعبّر عنه أوروبا اليوم· الدور الأميركي السابق والمستمر ولكن بأسلوب آخر، عبرت عنه أوروبا اليوم! وأعتقد أن في ذلك خطأ كبيراً يناقض مبادئ الديمقراطية الأوروبية العريقة· هم يريدون ديمقراطية في الأساس ويريدون سلفاً تحديد المشاركين فيها ونتائجها! وهذا يسقط الدور الأوروبي المميز في المنطقة وتحديداً في فلسطين حيث إن مشكلة الاتحاد الأوروبي هناك كانت تاريخياً مع أميركا وإسرائيل اللتين لا تريدان دوراً أوروبياً في الحل! وكان الدور محصوراً في تمويل بعض المشاريع لتخدير العالم والفلسطينيين والعرب والمسلمين والإيحاء أن ثمة مشاريع ومساعدات تقدم للشعب الفلسطيني، وكانت أوروبا سباقة في الدعم، ولكن إسرائيل كانت دائماً وتحت عنوان أنهـــا ''تحتفظ لنفسها بحق الرد على الاعتداءات والأعمال الإرهابية الفلسطينية تدمر كل شيء''! فيضيع الجهد والمال الأوروبيان!
اليوم يسقط الدور الأوروبي السياسي بالكامل· والموقف الحالي من الانتخابات، ومشاركة ''حماس''، فاتورة مجانية تقدم إلى أميركا وإسرائيل! ليس ثمة أمل بالاستفادة منها أو بتعزيز الحضور الأوروبي أو بتحقيق نتائج إيجابية من ورائها· فإذا كان المقصود محاربة الإرهاب وتقليل نفوذه فالإرهاب لا يزال في إسرائيل · إسرائيل هي التي تمارس هذا الإرهاب وهي السبب لكل ما يجري في فلسطين! وإذا كان المقصود مواجهة حركة ''حماس'' وإضعافها فإن القرار الأخير يؤكد الخوف من وجودها الشعبي ويعزز هذا الوجود· ولكن كلما ازداد الضغط عليها بهذا الشكل كلما توسع حضورها وتعززت فرص نجاحها أكثر· وإذا كان المقصود تقوية السلطة الفلسطينية فإن عدم إجراء الانتخابات، أو التدخل فيها، أو الضغط على الفصائل الفلسطينية، أو قطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني، كل ذلك يؤدي إلى إضعاف السلطة وليس إلى تقويتها· وبالتالي، لمصلحة من هذا الموقف الأوروبي؟
هذا الموقف لا يخدم إلا إسرائيل وربما يندرج في خانة التحولات التي تعيشها أوروبا والتي تشهد انحيازاً شبه كامل نحو إسرائيل في مجالات مختلفة· وإذا كان السبب في ذلك هو طبيعة التحولات الديموغرافية والسياسية في بعض المجتمعات الأوروبية ومواجهة ما يسمونه الإرهاب، وإلصاق هذه الصفة بالإسلام أو المسلمين، فإن لمثل هذه السياسة انعكاسات سلبية إضافية على الاستقرار والأمن في أوروبا نفسها، لأنها تعزز الحقد والكراهية!
على كل