العراق العراقية
أقترح عليكم أن نفرض حظراً على المسؤولين في إدارة بوش، نعم نفرض عليهم حظراً لأنهم لا يكفون عن محاولتهم قياس النجاح في العراق بعدد الجنود العراقيين الذين تم تدريبهم· أقترح هذا الحظر لأن المقياس المعتمد ببساطة مضلل ولا يعطي صورة حقيقية عن الواقع، ولأنه إذا ما ركنا إليه فإننا سنرتكب خطأ جسيماً يفوق الأخطاء الأخرى التي ارتكبناها مسبقا في العراق· ذلك أن النجاح لا يقاس بعدد الجنود العراقيين الجاهزين لخوض الحرب، بل يقاس بعدد المواطنين العراقيين الموجودين في العراق· فبدون اكتمال نصاب المواطنين العراقيين، لن يكتمل أيضا نصاب الجنود· وأعتقد شخصياً أن حديث بوش المسهب عن تدريب الجيش العراقي ليس إلا كلاماً فارغاً ومضيعة للوقت· وعلى كل حال ها نحن أمام المتمردين، فمن يقوم بتدريبهم؟ حسب علمي لا أحد، ومع ذلك يذيقوننا الويلات بعدما أثبتوا أنفسهم كقوة محنكة لها قدرة عالية على التأقلم وتوجيه الضربات القاتلة إلى قواتنا·
والسبب أنه في الحروب تلعب الروح المتحفزة دورا أهم من التدريب نفسه· فالمتمردون يعرفون أنفسهم جيداً، كما يعرفون لصالح من يقاتلون· فهم ليسوا أكثر من جماعة فظيعة ترتكب الجرائم، أما لماذا يحاربون، فهم بلاشك يريدون إقامة نظام فصل عنصري جديد تتمكن من خلاله الأقلية السُنية من بسط سيطرتها على البلاد وإخضاع الأغلبية الشيعية والكردية· بيد أن الإرادة هي أهم ما يملكون، ونحن نعرف أنه حيثما توفرت الإرادة اتضحت السبل· وبالمثل لن تستطيع القوات العراقية إثبات فعاليتها في الميدان، إلا إذا امتلكت الإرادة القوية للذهاب قدما في تحقيق الغرض من تدريبها· وبالطبع لن تتوفر لدى الجنود العراقيين الإرادة الراسخة للقتال، إلا إذا وُجدت حكومة تلهمهم الرغبة في الدفاع عنها والذود عن كافة ربوع الوطن، وهو ما يعيدنا مرة أخرى للحديث عن الوطنية·
وبالنظر إلى الانتخابات العراقية الأخيرة الرائعة التي جرت في جو من الحرية والنزاهة وشهدت خروج 11 مليون عراقي للإدلاء بأصواتهم، فإنه لا يسعنا كأميركيين سوى التعبير عن شعورنا بالفخر لما قدمناه من مساعدة إلى منطقة تشهد لأول مرة انتخابات حرة، وهي التي نادراً ما مارست التجربة الديمقراطية في حياتها السياسية· وبالرغم من نجاح الانتخابات، فإن السؤال الذي يظل عالقا وغامضا في الوقت نفسه هو لمن كان يُصوت العراقيون؟ هل كانوا يدلون بأصواتهم لصالح القادة الأكراد الذين يتحينون الفرصة لفصل إقليم كردستان عن العراق؟ وهل صوتوا لصالح رجال الدين الشيعة الموالين لإيران، والذين لا يخفون رغبتهم في إقامة منطقة شيعية على الشاكلة الإيرانية تمتد من البصرة جنوباً إلى حدود بغداد شمالاً؟ أم هل منحوا أصواتهم لزعماء القبائل السُنية الذين يحلمون بإعادة الحكم إلى أيدي السُنة والسيطرة على الآخرين؟ أم هل أن العراقيين لم يصوتوا لا لهؤلاء ولا لأولئك، بل صوتوا من أجل عراق موحد، ولصالح سياسيين مستعدين للتوصل إلى تسوية وإعادة كتابة الدستور ليتحول إلى ميثاق وطني كفيل بإخراج العراق من أزمته؟
أما إذا كان العراقيون قد تجشموا كل ذلك العناء وعرضوا أنفسهم لخطر الإرهاب فقط من أجل التصويت على الطوائف العراقية، فذلك لا يعني سوى أن العراق خال من المواطنين، وأنه غاص بجماعات متشرذمة من الشيعة والأكراد والسنة وغيرها من الجماعات والطوائف شاءت الصدفة أن تضمها أرض واحدة وتظللها سماء واحدة وتحيطها حدود مصطنعة· لكن إذا كان العراقيون قد صوتوا دفاعا عن عراق موحد ولصالح قادة قادرين على تحقيق ذلك وبلورته على أرض الواقع، فإن باب الأمل مازال مشرعا على مصراعيه للتوصل إلى نتائج مرضية تضع حدا لنذر الاقتتال الداخلي وتحيي الأمل في النفوس· وبالطبع لن يتحول ذلك إلى حقيقة ما لم يتحول العراقيون أنفسهم إلى مواطنين، والسياسيون إلى وطنيين وتنبثق شراكة بين الإثنين لخدمة العراق والمحافظة على وحدته· في تلك الحالة لن يكون أمامنا سوى البقاء في العراق لمساعدة مواطنيه، أما إذا ثبت خلو العراق من مواطنين، أو أن عددهم ليس كافيا، فإننا لن نجد شركاء للتعاون معهم، ولن يجدي مكوثنا في تحسين الأوضاع وخلق عراق جديد·
وبالرجوع إلى الرئيس بوش فإننا نلاحظ أنه يتحدث كما لو أن إرساء الديمقراطية التعددية في العراق بالطريقة التي تريدها أميركا هو أمر بديهي لدى العراقيين، وبأن كل المشكلة هي فيما إذا كنا سنبقى هناك ما يكفي من الوقت لرؤية الديمقراطية تتبلور، أما أننا سننسحب قبل الأوان· ورغم أنني أتمنى فعلا أن تصبح الديمقراطية مطلبا متفقا عليه من قبل العراقيين بجميع ألوان طيفهم، إلا أنني لست متأكدا مما يريده العراقيون· وأعتقد أن كل شيء يعتمد على طبيعة الأغلبية التي يريدها الشيعة في مقابل الأقلية التي سيقبلها السُنة· فهل سيتحلى الشيعة بشهامة المنتصر ليعيدوا كتابة الدستور على نحو يجعل السُنة الشرفاء من الذين يريدون أن يكونوا مواطنين في العراق الموحد يقبلون به؟ وهل سيوافق السُنة على نصيبهم من عائدات النفط العراقي،