لم يسرْ التاريخ العربي الاجتماعي، خصوصاً منذ حقبته الحديثة (أواخر القرن الثامن عشر)، بعيداً عن المشكلات التي علقت فيه وأصبحت من نسيجه· وإذا كان القول بكون تلك المشكلات ذات جذور عريقة في التاريخ المذكور، إلا أن الإضافة صحيحة، وهي أن الإمبراطورية العثمانية ذات الحضور المديد كادت توصل إلى الاعتقاد بأن العرب المنضوين تحت سيطرتها وُلدوا، وولدت معهم المشكلات المذكورة· وحيث نعلم أن هذه الأخيرة -وفي مقدمتها الطائفية السياسية والمذهبية خصوصاً- استعرت بقوة وبتحريض من ذوي القرار والفعل السياسي في الإمبراطورية المعنية وراحت تبدو كأنها فطرية لدى أصحابها (العرب)، فقد كانت الأرض قد أصبحت قابلة لتعميم المثل الشهير: العربْ جربْ!
ويلاحظ أن التركيب المجتمعي لمعظم البلدان العربية قام على موزاييك بديع من الطوائف الدينية والكيانات الإثنية والمذهبية، مِمّا كوّن لوحة متعددة الأطراف وقابلة لأن تكون موضع قوة اجتماعية وتوازن استراتيجي وطني، وكان مفهوم ''الوطن'' ولواحقه مثل ''الوطني'' و''الوطنية''، ما زال -في حينه- حديث العهد، ومختلطاً بمفاهيم متعددة مثل الطائفية والمذهبية والدينية، ومثل الطائفة الكبرى والطوائف الصغيرة· ولم يكن الوصول إلى مفهوم الوطن والوطنية أمراً صعباً لأسباب تتعلق بالوعي العلمي الاجتماعي فحسب، وإنما كذلك لأخرى تتصل بواقع الحال المشخص، الذي قام على التوزع الطائفي والديني والإثني في هذا الواقع ذاته· وفي مراحل لاحقة، خصوصاً مع تحقق الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية ثم تحقق الاستقلال عن البلدان الاستعمارية، ستبرز مسألة الطوائف والطائفية بمثابتها -مع غيرها- مدخلاً إلى تفتيت المشروع الوطني الديمقراطي في بلدان الاستقلال العربية· وسار ذلك بالتوازي مع اندلاع الانقلابات العسكرية وتحوُّل الجيش إلى جيش غير عسكري، بعد مغادرته المشؤومة لمواقعه العسكرية وإخفاقه فيما اعتقد أنه سينجح فيه، وهو الحقل السياسي· لقد أخذت الطوائف تتصدّر، وإن بطرق ضمنية، مشاريع جموع من الانقلابيين العسكريين والمدنيين، لتنتج لاحقاً وعبر العديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإيديولوجية وغيرها اتجاهاً لابتلاع مظاهر المجتمع المدني المتعدد الأنساق والاحتمالات المفتوحة، وظهور الجيش (غير العسكري أي الموظّف في خدمة النظام القائم) بصفته تابعاً لأجهزة أمنية أخطبوطية أو مندمجاً بها·
إن الكلام عن الطائفية راهناً يأتي من أن حضورها، الذي بدا لفترة معينة سابقة وبعد تحقق الاستقلال الوطني ضعيفاً، أخذ يظهر في حالات كثيرة وفي بلدان عربية متعددة منها لبنان· فجاءت الحرب الأهلية الطائفية اللبنانية منذ ثلاثة عقود، لتؤكد على أن ناراً ظلت تحت الرماد، وأن الظروف التي أدت إلى تلك الحرب لم يجْر اجتثاثها تماماً· فلبنان، الذي حصل على استقلاله عام ،1943 استطاع -لفترة قصيرة- أن يؤكد على هذا الأخير في ظل حالة من النمو الوطني الديمقراطي· لكن ذلك ما فتئ أن أخذ يتلقى اختراقات قادت إلى الحرب الأهلية الطائفية لعام ·1959 وفي هذا وذاك، راح يتضح للجميع أن مصالح الشعب اللبناني، في كل طوائفه، وأقلياته، تكمن في احترام هذه الأخيرة فعلاً أولاً، وفي التأسيس لعلاقات جديدة فيما بينها وعبر مداخل الوطن اللبناني وقنواته ثانياً·
لقد تعثر المشروع الوطني الديمقراطي في لبنان لظهوره خطِراً بالنسبة إلى عدد من بلدان الجوار، التي يقوم النظام السياسي فيها على الاستبداد، بما في ذلك الاستفراد بالسلطة وبالثروة وبالرأي العام وبالحقيقة أولاً، ولأن قوى سياسية وطائفية فيه تستقوي على داخلها اللبناني بقوى سياسية وعسكرية وأمنية في الخارج، سواء كانت عربية أم أجنبية (غربية)· ذلك لأن المشروع إذا أتيح له أن ينجح في لبنان، فإنه سيكون بمثابة مثال بارز للمنافسة مع نظم أمنية عربية· واليوم مع اشتعال الوضعية في لبنان وخصوصاً منذ اغتيال رفيق الحريري، يعيش هذا البلد نُذُرَ شؤم جديدة، إذا ما أتيحت لها احتمالات الاشتعال، فإنها قد تتحول إلى حرب من طراز جديد خطير يمكن أن يطال دول الجوار ومنها سوريا، ويجعل من المنطقة مربض سلاح واحتلال وحصار من قِبل المشروع الأميركي-الإسرائيلي· وحينذاك، قد تنفتح مخاطر عظمى لتفكيك ما هو مفكك وتفتيت ما هو مفتت، ويكون الخطاب السياسي بكل أطرافه خطاباً كلياً في الهزيمة والعار المفتوحين·
إن المجتمع الوطنــي الدستوري والقانوني يواجــه في لبنان وبلدان عربية أخرى مجاورة، حالة قد لا تكــون لهــا سابقة في التاريـخ العربـــي· مــن هنــا، يبدو أن اجتثاث جــذور ذلـك في لبنان وسوريا تخصيصاً إنمــا هــو حدٌ أدني لبقائهما فــي حدود أولية حاسمة، ومن جهـــة سوريـــا، فإن الاستجابــة للأمـــم المتحدة حقــاً مـــع الشروع فــي مشــروع الإصلاح الوطني الديمقراطي عمقــاً ووسطــاً، يشكــلان الرافعـــة العظمى لمواجهــة تحديات لا سابق لهــا سورياً ولبنانياً وعربياً·