شهدت الأيام القليلة الماضية أحداث عنف جرت وقائعها على أحد شواطئ مدينة ''سيدني'' الأسترالية، قام خلالها خمسة آلاف من الشباب البيض الأستراليين، بالاعتداء على حفنة من الأشخاص ذوي الأصول الشرق أوسطية، بما في ذلك النساء والفتيات· وتأتي هذه الأحداث بعد مرور أسابيع قليلة على وفاة ''روزا بارك''، والتي تعتبر رمزا من أهم رموز حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة· ففي الأول من مارس عام ،1955 رفضت هذه السيدة ذات الأصول الأفريقية، الانصياع لقوانين الفصل العنصري السائدة في الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الأهلية الأميركية· هذه القوانين كانت تفرض ضمن ما تفرض على السود الأميركيين، ركوب حافلات النقل العام من الباب الخلفي فقط، وإخلاء مقاعدهم على الفور، إذا ما ركب شخص أبيض الحافلة ولم يجد مقعدا· وهو ما رفضت ''روزا'' القيام به، مما دفع سائق الحافلة للاتصال بالشرطة لإلقاء القبض عليها، وتقديمها للمحاكمة، حيث حكم عليها بغرامة مالية· هذه الأحداث لم تقع في العصور الوسطى أو في أزمنة تجارة العبيد، بل قبل خمسة عقود فقط· وتأتي أحداث سيدني أيضا فـــــي نفس يوم الذكـــرى الأربعيــن، لصــــدور قانون العلاقــــــات العنصـرية فـي بريطانيـــــا ((Race Relations Act، هذا القانون الذي تم تمريره بعد انتشار يافطات على جميع أماكن السكن والإقامة في بريطانيا، خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، كتب عليها بالخط العريض (لا تأجير للسود)· وبعد أن كان من الشائع حينها، منع المهاجرين ذوي الأصول الكاريبية والأفريقية من دخول الحانات والمطاعم، والتي حملت نوافذها الخارجية يافطات كتب عليها بالخط العريض (ممنوع اصطحاب الكلاب والسود)· وتأتي أحداث ''سيدني'' أيضا، في نفس يوم الحكم بالسجن لمدة أربعة أعوام ونصف على شاب بريطاني، بسبب اعتدائه بالضرب على إمام جامع معوق ومقعد، أثناء خروجه من مسجد في جنوب العاصمة البريطانية· والغريب أنه بينما كان القاضي البريطاني يتلو حيثيات الحكم، مرددا ''إن العنصرية، في أي شكل من أشكالها، هي شر لا يمكن للمجتمع أن يتحمله''، كانت شبكات التلفزيون العالمية تنقل صور هجوم ثلاث من النساء الأستراليات على فتاة لبنانية، طرحنها أرضا وأوسعنها ضربا، وعلى مقربة من أقدام الشرطة الأسترالية·
ولكن هل العنصرية فعلا آفة اجتماعية، أم هي مجرد صفة بشرية طبيعية؟ إجابة هذا السؤال تفرض علينا أولا أن نضع تعريفا واضحا ومحددا للعنصرية، وأن نبحث في جوانبها البيولوجية· ولعل أفضل تعريف للعنصرية ربما كان هو الذي يصفها بأنها: إيمان أو اعتقاد بأن الأعراق البشرية المختلفة تتفاوت في قيمتها، وأن هذا الاختلاف أو التفاوت في القيمة يمكن قياسه وتصنيفه، وهو ما يؤدي بدوره إلى تمتع بعض الأعراق بقدر أكبر من المزايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مقارنة بالأعراق (الأدنى) التي تشاركها الحياة في نفس المجتمع· وهذا المفهوم مختلف في جزئه الأخير عن الاعتقاد الإنساني الآخر، بأن أفراد الجنس البشري مختلفون في طباعهم وفي شخصياتهم وقدراتهم، ودون أن يضيف أو ينتقص هذا من قيمتهم· أي أن العنصرية هي (نحن مختلفون وغير متساوين)، بينما الإنسانية هي (نحن مختلفون ولكنْ متساوون)· ولكن هل ''العرقية''، بمعنى وجود عناصــر وأعـــــراق داخــــل الجنس البشــري -وبغض النظر عن التساوي بينها من عدمه- هي حقيقة علمية، أم أنها مجرد أسطورة اجتماعية ثقافية؟ أي هـــــل يمكــــن فعلا تقسيم الجنس البشري إلـــى عناصر وأعـــراق مختلفة، علـــى أســس بيولوجية وعلمية مثبتة وواضحـــة؟
محاولة إجابة هذا السؤال تقسم علماء دراسة الأصول الإنسانية أو الأنثروبولوجيا إلى فريقين· الأول والذي يضم بين أعضائه حوالي نصف علماء الأنثروبولوجيا، يعتقد أن النظرة الكلاسيكية للجنس البشري، بوصفه مكونا من عناصر وأعراق مختلفة، هي نظرة سليمة وصحيحة بيولوجياً· ويرى هذا الفريق أنه لا خطأ ولا خطيئة في محاولات تعريف وتحديد وتسمية الأعراق البشرية المختلفة، والمنطوية جميعها تحت الجنس الكبير المعروف بالجنس البشري· ويضم هذا الفريق بين أعضائه غالبية علماء الأنثربولوجيا الجنائية، وهم المعنيون بدراسة الاختلافات في الهياكل العظمية بين الأشخاص، وإمكانيات التعرف على ضحايا الجرائم من خلال دراسة بقايا عظامهم· أما الفريق الآخر، والذي يضم باقي علماء الأنثروبولوجيا، فيعتقد أن تقسيم البشر إلى أعراق هو تقسيم يتصف بالعشوائية والاعتباطية، ولا يحمل في مضمونه أية قيمة علمية· ويرى هذا الفريق أن هناك مفاهيم وطرقاً أفضل بكثير، بدلا من التقسيم العرقي، يمكن من خلالها دراسة وتقييم الاختلافات بين أفراد الجنس البشري· هذا الفريق يضم بين أعضائه غالبية علماء الأنثروبولوجيا المتخصصين في دراسة أنواع فصائل الدم، ومدى الاختلافات التي تظهرها هذه الفصائل بين أفراد الجنس البشري· ويفسر هذا الفريق السلوك العنصري، على أنه نتيجة عوامل سياسية واجتماعية، تلقي بثقلها على المجتمعات البشرية في أوقات مع