مرة أخرى يعود لبنان إلى واجهة الأحداث من خلال جريمة اغتيال سياسية أخرى، ضحيتها هذه المرة النائب اللبناني، ورئيس تحرير صحيفة ''النهار'' اللبنانية، جبران تويني· ومرة أخرى يعود الانقسام والتجاذب حول من المسؤول عن جرائم الاغتيال التي تستمر بوتيرة منتظمة، وباحترافية عالية· السؤال الذي يمسك بعصب حياة اللبنانيين الآن هو: من الذي يقف وراء مسلسل الاغتيالات الذي يقتنص السياسيين والكتاب واحداً بعد الآخر؟ والحقيقة أن يبقى هذا السؤال من دون جواب، ولأكثر من سنة الآن، هو بحد ذاته ملمح يثير، أو ينبغي له أن يثير القلق على طبيعة المأزق اللبناني· وتزداد صورة المأزق قتامة عندما نتذكر أن عمر السؤال المذكور يتجاوز في واقع الأمر أكثر من ثلاثة عقود·
الأسوأ أن السؤال لم يتحول إلى قضية مكشوفة يتحدث عنها الجميع في لبنان إلا هذه المرة، وهذه السنة· دقق النظر قليلاً· لم يصبح السؤال كذلك بعد اغتيال رفيق الحريري· لا· حدث ذلك بعد الغزو العراقي للكويت، وبعد أحداث سبتمبر ،2001 وبعد الغزو الأميركي للعراق· وهذا بحد ذاته يطرح سؤالا آخر يتمثل فيه المأزق اللبناني، ومعه المأزق العربي: ما هي أهم العوامل في تشكيل الوعي السياسي اللبناني- العربي في الآونة الأخيرة؟ الوعي السياسي العربي الذي تشكل في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ونضج في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يتعرض لعملية تصدع متواصلة وعنيفة· هناك من يستفيد من عملية التصدع هذه، وهناك من يخسر منها، وربما يخسر كثيرا·
هناك في المقابل من يظن أنه يكسب منها· المأزق اللبناني، ومعه المأزق العربي، أن قلة قليلة تستطيع مواجهة هذا الواقع، والاعتراف بموقعها منه: بالاستفادة أو بوهم الاستفادة، بالخسارة أو بوهم الخسارة· الصورة ليست على الدرجة نفسها من الوضوح لكل واحد أو لكل فئة· ما كان ينبغي أن يكون عدم الوضوح مصدراً للخصومة، أو سبباً للعنف· لكن الواقع لا يتطابق دائماً، ولا حتى غالباً، مع النيات أو التنظيرات· جبران تويني كان واحداً ممن أعلنوا استفادتهم، (هل كان واهماً في استفادته؟ السؤال هو مناط الاختلاف والصراع في لبنان)· ذهب تويني أبعد من ذلك في إصراره المعلن على تعميق واقع هذه المرحلة، أو تعميق التصدع، ومن ثم محاولة الدفع في اتجاه تعميق استفادته واستفادة لبنان من ذلك· رأى في ذلك تحقيقاً لاستقلال وحرية لبنان· هناك طبعاً من يرى عكس ذلك تماماً·
نعود إلى السؤال: من المسؤول عن مسلسل الاغتيالات في لبنان؟ هناك إجابتان متناقضتان يتم تداولهما في لبنان· تقول الأولى بأن هناك جهات أجنبية تقف وراء الاغتيالات بهدف تقويض الاستقرار في لبنان، وذلك لتحقيق هدفين، هما في النهاية هدف واحد: تعميق أزمة سوريا مع المجتمع الدولي، ومن ثم إكمال عملية سحب الورقة اللبنانية من يد سوريا نهائياً· والنتيجة الطبيعية المتوقعة في هذه الحالة، أو الهدف الثاني، هو تسهيل فرض الوصاية الدولية على لبنان عن طريق التحقيق الدولي، وإنشاء محكمة دولية· الجهة المستفيدة في هذه الحالة، والتي تدبر الاغتيالات وتخطط لها هي الاستخبارات الإسرائيلية· أصحاب هذا الطرح هم بشكل أساسي ''حزب الله'' و''حركة أمل''، حلفاء سوريا الأساسيون في لبنان· وتشاركهم سوريا الرؤية ذاتها· يرى هؤلاء أن سوريا لا يمكن أن تكون وراء عمليات اغتيال متواصلة تضرب مصالحها في العمق داخل لبنان، وتضر بمصالحها الإقليميـــــة في المنطقــــة، مــــن حــــيث أنها تعمـــق عزلتهــا وتخرب دورهــا الإقليمــي·
الإجابة الثانية على السؤال ترى عكس ذلك تماماً، وتصر على أن سوريا، وبقايا حلفائها في الأجهزة الأمنية اللبنانية، هي الجهة التي تقف وراء الاغتيالات· والسبب، كما يراه هؤلاء، أن سوريا تعمل على تصفية كل من له دور في معارضة بقائها في لبنان، وكل من عمل على إخراجها منه· يرى هؤلاء أن النظام السوري يعتبر استقلال لبنان عن وصايته التي استمرت لثلاثين سنة مصدر تهديد استراتيجي له ولدوره الإقليمي في المنطقة· ومن هنا، ولهذا السبب وليس لسواه، بدأ مسلسل الاغتيالات بمحاولة اغتيال مروان حماده، ثم الاغتيال المدوي لرفيق الحريري باعتباره مهندس الاستقلال اللبناني· حسب هذه النظرية، كل من هو مرتبط بخط الاستقلال هذا يعتبر في نظر سوريا عدواً لها يجب تصفيته· أصحاب هذا الرأي هم بشكل أساسي ''تيار المستقبل''، و''التيار الديمقراطي''، أبرز خصوم سوريا في لبنان الآن· ماذا عن حقيقة أن سوريا هي التي تخسر من مسلسل الاغتيالات، وأن إسرائيل، العدو الأول لسوريا والعرب، هي المستفيد الأول منه، وعلى حساب الجميع؟ هل يعقل أن تقدم سوريا على مغامرة مجنونة نتائجها مكشوفة بهذا الشكل للجميع؟ في مقابل هذا السؤال يطرح الطرف الآخر سؤالا لا يقل وجاهة: هل كان إصرار سوريا على التمديد للرئيس لحود في صالحها أو صالح لبنان؟
ثم إن التعامل مع الموضوع من زاوية المستفيد والخاسر حصراً، وبهذه الطريقة، يفترض مسبقاً فرضية مغلوطة وفاسدة، وهي أن الإنسان، ومن ثم الأنظ