أخيرا قام الرئيس بوش في 30 من نوفمبر الماضي بطرح خطته على الجمهور الأميركي والرأي العام الدولي حول الطريقة التي يعتزم بها تحقيق النصر في العراق، وهو النصر الذي استعصى عليه طيلة فترة السنتين ونصف السنة التي قضتها القوات الأميركية في العراق· ولئن كانت بعض المعايير التي حددها بوش تبدو جيدة في مجملها، فإنه ما إن كشف عنها للجمهور حتى تبينت صعوبة الطريق التي يتعين على الولايات المتحدة قطعها قبل الجزم بأنها أحرزت النصر في العراق، أو حققت النجاح المنشود· ومع أن خطاب الرئيس بوش بدا غير مقنع ومليئاً بالثغرات، إلا أن ذلك لا ينفي التحركات الإيجابية التي قامت بها الدبلوماسية الأميركية في العراق بعد تخليها الملحوظ عن أيديولوجيتها المعهودة، وانتهاجها لسياسة أقل تصلباً وأكثر انفتاحاً على أمل أن تثمر نتائج مرضية تسهم في تهدئة الوضع المضطرب في العراق· ومع ذلك سيتعين علينا الانتظار لبعض الوقت لتقييم تلك الجهود الدبلوماسية والحكم على مدى إسهامها في حل مشاكل العراق المتشابكة·
ولعل من بين معايير النجاح الأكثر بروزاً في خطاب الرئيس بوش الأخير هو الهدف النهائي الذي أعلن عنه عندما قال نريد ''عراقا ينعم بالسلام والاستقرار، عراقا ديمقراطياً وموحداً يسوده الأمن، نريد عرقاً يتوفر العراقيون فيه على المؤسسات والموارد اللازمة لإدارة شؤونهم بمنتهى العدل، وتحقيق الأمن والاستقرار لأنفسهم''· وبالرغم من أن كلمات بوش جاءت مفعمة بالأمل في المستقبل، إلا أن الواقع الميداني يشير إلى عراق آخر مازال بعيدا عن تحقيق السلام، أو بلوغ الأمن والاستقرار· وحتى فيما يخص العملية الديمقراطية التي يعلق عليها بعض المسؤولين الأميركيين آمالا كبيرة، فهي تئن تحت وطأة تحديات جسيمة بالنظر إلى الاعتبارات الطائفية والعرقية التي تصطبغ بها الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها في الخامس عشر من الشهر الجاري· ويضاف إلى هذه الحقيقة المؤسفة الطريقة المستعجلة التي أجريت بها المحادثات الأخيرة قبل إقرار الدستور العراقي الجديد، والذي مهد الطريق لتقسيم العراق وتمزيق أوصاله، جاعلا من هدف بوش المعلن في الحفاظ على عراق موحد أمرا بالغ الصعوبة·
ومع الأسف تظهر التجارب السابقة في الهند والبوسنة، كما في مناطق أخرى أن تفكك الدول قد يكون عنيفاً وقاسياً جداً، وهو ما بدأت تبرز بعض بوادره في العراق، لا سيما في ظل تنامي الحملات المغرضة التي تدعو إلى ''التطهير'' العرقي والطائفي، وهو ما يتردد صداه حالياً في بلاد الرافدين· هذا وسيشكل انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية العراقية البالغ عددهم 275 عضوا في 15 من الشهر الجاري أمرا مهماً لسببين اثنين· أولا لأن فترة ولاية أعضاء الجمعية الوطنية ستمتد إلى أربع سنوات، والثاني لأن تلك المدة كفيلة بمنحهم دوراً أكبر في حكم البلاد وإدارة شؤونها· بالإضافة إلى ذلك سيتعين على أعضاء الجمعية الوطنية الدخول في مناقشات حاسمة وطويلة من أجل الاتفاق على النقاط العديدة في الدستور التي مازالت محط اختلاف بين الساسة العراقيين· ولا أحد يعرف على وجه التحديد كيف سيتم تجسير الهوة السحيقة التي تفصل بين مختلف الفرقاء في العراق وتعطل تقدم العملية السياسية· أما السؤال الآخر الذي يطرح نفسه بقوة فيتمثل فيما إذا كانت الانتخابات المقبلة ستسفر عن قيادة سياسية ملتزمة بوحدة العراق· أغلب الظن أن ذلك لن يحدث· وفي هذا الإطار برز مرشحان يشددان على وحدة العراق، وهما السياسي أحمد جلبي المؤيد لأميركا، ورئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي· وبالرغم من عيوبهما، فإنهما يتفقان على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق وتماسكه· أما المفاجأة فكانت من الزعيم الشيعي آية الله علي السيستاني الذي رمى بثقله في العملية السياسية بعدما دعا أتباعه الأسبوع الماضي علانية إلى التصويت بكثافة لصالح الأحزاب الدينية، واستثناء ما عداها·
وغني عن القول إن هذه الفتوى من رجل دين بحجم السيستاني سوف تدفع الملايين من الشيعة للتصويت لصالح القائمة الشيعية ممثلة في ''الائتلاف العراقي الموحد''· ولأن الشيعة يشكلون 60% من الناخبين لن يتمكن إياد علاوي أو أحمد جلبي من الصمود في وجه الأحزاب الدينية· وتسعى قائمة ''الائتلاف العراقي الموحد'' إلى الظفر بالمقاعد البرلمانية المخصصة للشيعة في جنوب العراق ووسطه· في حين يرغب الأكراد في تكريس تواجدهم في المناطق الشمالية والشرقية للعراق، ومن جانبها تتطلع الأحزاب السُنية إلى الفوز بالمقاعد المخصصة للمحافظات السُنية الثلاث في البلاد· هذا ويتوقع من الأكراد، في المفاوضات الدستورية التي ستعقب الانتخابات، أن يطالبوا بإدارة لا مركزية واسعة في العراق، ما سيدفع السُنة لمعارضة ذلك الطرح ومناهضته· وإذا ما ساند ''الائتلاف العراقي الموحد'' مطلب اللامركزية الواسعة، وهو ما سيفعله على الأرجح، فإن ذلك سيعني تهميش السُنة وإقصاء رأيهم حول الموضوع، وحينها سينتهي الأمر بتبني الجمعية الوطنية منح المحافظات صلاحيات واسعة على نحو يضر بمصالح السنة·