ربما يكون إبطاء إعادة الإعمار، بمثابة نفي وإنكار لها في بعض الأحيان· وكما نذكر فقد وعد الرئيس بوش بعد أشهر قليلة من غزوه للعراق، بإعادة إعمار بنيته التحتية واقتصاده· وكان هو أو من يتولى كتابة خطاباته، مدركاً لحقيقة أن إعادة الإعمار هذه، لم تكن مهمة بحد ذاتها فحسب، وإنما يزيدها أهمية كونها وسيلة ناجعة لإخماد نار التمرد وتجفيف منابع السند الشعبي له· وفي ذلك السياق أعلن بوش في شهر أكتوبر من عام 2003 أنه ''كلما توفر المزيد من الإمداد الكهربائي، وكلما ازدادت الوظائف المتاحة للعراقيين، وكلما ارتفع عدد الطلاب والتلاميذ العائدين إلى مدارسهم بعد الحرب، كلما استبد اليأس بالقتلة المتمردين''· لكن وعلى رغم كل هذه التصريحات الرئاسية، ظلت عملية إعادة إعمار العراق مادة للاستهلاك والعلاقات العامة، أكثر منها واجباً للتنفيذ والفعل· فهل تذكرون عندما قام وفد من أعضاء الكونجرس بزيارة للعراق، زار خلالها عدداً من المدارس التي تم طلاؤها بدهان جديد هناك؟ واليوم فقد اتفق كل من مؤيدي الحرب ومناهضيها على أن إدارة بوش إنما تغلق نافذة مهمة للغاية وتحرم نفسها من كل فرص النجاح الممكن، بسلحفائيتها وبطئها في تنفيذ وعودها بإعادة إعمار العراق· وفي الوقت الذي أخذت فيه الإدارة مأخذ الجد مهمة تمويل إعادة الإعمار، إذا بالوضع الأمني يتدهور إلى أدنى درجاته في بلاد الرافدين، مما جعل من ذلك السباق سباقاً خاسراً وخارج زمانه وتوقيته من جانب الإدارة· وبالنتيجة فقد تبخرت الوعود وغابت الكهرباء والوظائف التي قيل إنها ستدفع بالقتلة والمتمردين إلى حافة اليأس· والشاهد أن العراق أنتج من الطاقة الكهربائية الشهر الماضي، أقل مما أنتجه في أكتوبر عام ،2003 وهو التاريخ الذي أطلقت فيه تلك الوعود! ومن جانبها تقدر الحكومة العراقية الحالية، معدلات البطالة في أوساط المواطنين بنسبة تصل إلى 27 في المئة، إلا أن الرقم الحقيقي ربما يفوق هذا المعدل بكثير·
واليوم فإننا نخسر نافذة أخرى لإعادة الإعمار، بيد أنها داخل بيتنا الأميركي هذه المرة· فما أن ضرب إعصار ''كاترينا'' المناطق الساحلية من خليج المكسيك، حتى سارع الرئيس بوش إلى الظهور بعده بأسبوعين في مدينة ''نيوأورليانز'' المنكوبة، وأعلن هناك وسط الأنقاض والخرائب قولته الشهيرة ''إن هذا العمل الذي بدأ هنا في منطقة الخليج الساحلية، سيكون تجسيداً لأكبر جهود إعمار، لم يشهدها تاريخ البشرية من قبل''· لكن وفيما يبدو، فقد نسي بوش وعوده تلك، التي حملتها الرياح· فبعد مضي ثلاثة أشهر على تلك التصريحات، لم تبلغ جهود إعادة الإعمار في الساحل المنكوب، حتى مرحلة التخطيط، ناهيك عن بدء التنفيذ· وفي تعليق صحفي لها على الواقع الماثل الآن في مدينة ''نيوأورليانز''، قالت صحيفة ''لوس أنجلوس تايمز'' إن اللاعبين الوحيدين في دراما إعادة الإعمار هذه، هم أصحاب البيوت أنفسهم، والمستثمرون في مجال العقارات بالمدينة·
إلى ذلك تجدر الإشارة إلى أن بوش لم يخطُ خطوة واحدة حتى هذه اللحظة، لتعيين فريق عمل جديد، تناط به مهمة انتشال ''وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية'' من العجز والشلل الذي تعانيه· والحاصل أن معظم المناصب القيادية بالوكالة المذكورة -بما فيها منصب المدير- ظلت شاغرة ولم يملأها أحد، بينما يستمر شغلها بالإنابة المؤقتة، بدلاً من تعيين موظفين ثابتين فيها· وعليه فإن رئيس الفريق لا يزال يفتقر تماماً لأية خبرة سابقة في مجال إدارة الطوارئ والكوارث، وهو يشغل منصبه الحالي بحكم ولائه السياسي للإدارة، لا أكثر! واليوم فقد اختزلت إعادة إعمار الساحل المنكوب إلى قناة فءحئف الفضائية التي تبث مواد دعائية عبر خدمتها التلفزيونية وموقعها على شبكة الإنترنت، عن ضخامة جهود إعادة الإعمار الجارية في المنطقة الساحلية، وعن عظمة إدارة الرئيس بوش ودورها في تلك الجهود!
وكما حدث في العراق من تلكؤ وتباطؤ في إعادة الإعمار الفعلية، فإن إدارة بوش إنما تسدُّ نافذة مهمة للأمل والنجاح، على المستوى المحلي الأميركي نفسه· وعلى حد قول تقرير صحيفة ''لوس أنجلوس تايمز'' فإن جهود القطاع الخاص المبذولة الآن في إعادة إعمار ساحل خليج المكسيك، لن تنجح وحدها في إكمال هذه العملية الكبيرة الضخمة، المحفوفة بدائرة من العقبات والمصاعب الشريرة· والشيء الذي لم تنتبه له إدارة بوش هو أن في وسع الجهود الحكومية الصادقة التصدي لواجب إعادة الإعمار هذا، وأنه في وسعها قلب تلك الدائرة الشريرة إلى دائرة خيرة حميدة، سواء في أميركا أم في العراق·
وفيما لو جدت الإدارة في هذا المنحى، ورأى سكان الساحل الخليجي المنكوب بعيونهم ما يجري من إعمار لبيوتهم وشركاتهم التي دمرها الإعصار، فسوف يبادرون إلى دعم تلك الجهود، ويقفون وراءها·لكن مع مضي الشهور وراء الشهور، ومع غياب أية خطة أو أموال لإعادة الإعمار، إنما يكرر الرئيس بوش عجزه عن الوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه، هنا··· تماماً مثلما فعل في العراق! وإنه لمن الطرافة أن نذكر أن بوش كان قد تجنب الوقو