أخذ العبر من الماضي سنة حميدة، والانتخابات المصرية في الإعادة في المرحلة الثالثة أوشكت على الانتهاء· والكل يحلل ويستخلص العبر وأهمها:
1- ارتفاع صوت المعارضة العلمانية بكل فصائلها، الناصرية واليسارية والليبرالية في جرائدها وآرائها وداخل مقارها وضعف وجودها في الشارع· هناك فرق بين الصوت والجسم، بين الكلام وأثره· تعبر عن أشواق الجماهير وطموحاتها ولكنها لا تسيِّسها أو تجندها، باستثناء شرائح كبرى من المثقفين والفنانين· تعبر عن خطورة الموقف السياسي في الداخل والخارج ولكنها عاجزة عن استقطاب الناس باستثناء القلة· وما فائدة النقد دون الجمهور العريض· مع أنها هي المعارضة الأكثر وعياً من الناحية السياسية، والأكثر قدرة على صياغة برامجها الاجتماعية والسياسية تفصيلياً دون الاكتفاء بالشعارات الوجدانية أو الإيمانية· وهي الأكثر تواصلا مع تاريخ مصر، ''الوفد'' مع ما قبل الثورة المصرية في ،1952 والناصريون واليساريون مع ما بعد الثورة المصرية المغدورة منذ السبعينيات وحتى الآن· والسؤال هو: كيف يتحول اليسار العلماني إلى قوة شعبية، له قواعده الجماهيرية وثقافته الثورية النابعة منه وليس الأيديولوجيات الجاهزة الوافدة التي لا يعلمها الكثير من الأغلبية الأمية الصامتة؟ فكر دون جمهور، وروح بلا جسد، وصورة بلا مادة، ورأس بلا جسم·
2- ظهور المعارضة الدينية وكأنها اللاعب الأول في الساحة· ويؤثر شعارها ''الإسلام هو الحل'' على الجماهير التي تبحث عن حل لمشاكلها بعد أن جربت أنظمة الحكم فيها الليبرالية مرة قبل ثورة ،1952 والاشتراكية مرة أخرى بعدها· وضاعت نصف فلسطين في التجربة الأولى في ،1948 وضاع النصف الآخر في التجربة الثانية في ·1967 كانت الجماهير قبل الثورة مطحونة بالإقطاع والقصر والإنجليز، ومازالت مطحونة بعد الثورة والانقلاب عليها منذ السبعينيات برجال الأعمال وهيمنة الولايات المتحدة وغطرسة إسرائيل· فللشعار ''الإسلام هو الحل'' دلالة نفسية، المفتاح السحري، وكلمة السر للتخفف من الضنك· والناس مرتبطة بتراثها· تعرف الإسلام ولا تعرف الليبرالية والقومية والاشتراكية والماركسية باعتبارها شرائع لم ينزل الله بها من سلطان· الشعار يمثل هروبا إلى الأمام حتى تمر هذه الموجات العالية من الأيديولوجيات العلمانية للتحديث· هو هروب سلبي· وقد لا تعرف معنى الشعار إيجابياً كنظام اقتصادي سياسي اجتماعي لحل المشاكل التي تعاني منها البلاد· هو طريق للخلاص، وحلم بمستقبل أفضل· وهو شعار قصير مركز يجيب على السؤال الضمني الذي يسأله كل الناس: ما الحل؟ ما البديل؟ ويكون الجواب النفسي ''الإسلام هو الحل''، ''الإسلام هو البديل'' والحل لأزمة الروح والأخلاق والضمير· فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان· وهو ما ادعته الجماعات أكثر مما ادعاه المثقفون الذين حاولوا إقناع الجماعات بترجمة الشعار إلى برنامج اجتماعي سياسي اقتصادي ما دامت تخاطب الرأي العام ولا تخاطب نفسها وجماعتها·
3- عدم التنسيق الكافي بين قوى المعارضة المدنية، ناصرية ويسارية وليبرالية، وبينها وبين قوى المعارضة الإخوانية· وحدة قوى المعارضة مازالت بعيده المنال· كان هدف كل منها الحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد في مجلس الشعب وليس تفويت الفرصة على الحزب الحاكم للحصول على الثلثين· فنزل مرشحو المعارضة المدنية ضد بعضهم بعضاً، الوفدي ضد اليساري، واليساري ضد الناصري، وكل منهما ضد الإخواني· كل مرشح يريد المكسب إيجاباً لنفسه وليس سلباً بإسقاط خصومه في الحزب الحاكم· وقد اشتهر أحد رؤساء الأحزاب اليسارية بالهجوم المستمر على ''المتأسلمين'' وعلى ''الإخوان'' لأنه لا لقاء بين العلمانية والإسلام، ولا تداخل بين السياسة والدين· وهو خطأ تاريخي وعلمي في آن واحد· فالإسلام دين علماني كما يبدو في مقاصد الشريعة، الحفاظ على الحياة والعقل والحق والكرامة (العرض) والثروة (المال)· يبحث في العلل المؤثرة في سلوك الناس· وقيم العلمانية، العقل والعلم والإنسان والطبيعة والتقدم قيم إسلامية كما لاحظ الطهطاوي في ''مناهج الألباب'' ورؤيته مدى الاتفاق بين فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر والشريعة الإسلامية بين ''الشرطة'' لنابليون والشريعة بين مونتسكيو وابن خلدون·
4- استراتيجية جماعة ''الإخوان'' في الإمساك بكل الخيوط، الحزب الحاكم بيد والمعارضة باليد الأخرى· مع الحزب الحاكم ''مشاركة لا مغالبة''، ومع المعارضة تنسيق جزئي لا منافسة· يكسبون من الحزب الحاكم في ضعفه وعجزه وحاجته إلى المؤازرة فمازال يمسك بزمام السلطة· وينسقون مع المعارضة خاصة مع الحركة الوطنية من أجل التغيير· بل إنهم في البداية لم يرفعوا شعاراتهم النمطية· والتفوا حول الشعارات الوطنية العامة التي رفعتها حركة ''كفاية''، لا لقانون الطوارئ، لا للأحكام العرفية، لا للتوريث، لا للتمديد، نعم لإصلاح الدستور، نعم للتعددية السياسية، نعم لتداول السلطة، نعم للحريات العامة، نعم لإعادة توزيع الدخل، نعم لتأييد المقاومة في فلسطين والعراق·
5-