عندما وصلت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى أوروبا الثلاثاء الماضي، لم تكن لديها أدنى رغبة في تقديم تنازلات بشأن ممارسات الاستخبارات المركزية الأميركية المتعلقة بالاحتفاظ بسجون في دول أجنبية خارج نطاق الصلاحية القانونية الرسمية (أو المعترف بها) لأية دولة، وكذلك نقل السجناء من مكان إلى مكان وهم مخدرون بدون إحاطة سلطات الدول التي تستخدم مطاراتها أو التي يتم عبور مجالها الجوي علما بذلك·
وليست لدى رايس أية اعتذارات تقدمها، أو أية تفسيرات يمكن عرضها فيما يتعلق بنفي التهمة التي تقول إن نقل هؤلاء'' المعتقلين'' بواسطة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى سجون سرية يتم بغرض تعذيبهم في مواقع خارج نطاق اختصاص القضاء الغربي بشكل عام· وهي بذلك تؤكد موقف إدارة بوش الرسمي الذي يقول إن الولايات المتحدة لا تنخرط في أعمال تعذيب كما لا تنتهك القوانين الأميركية أو المعاهدات الدولية (بيد أنها مع ذلك تفضل وبصرف النظر عما يحدث أن تتم مثل هذه الأعمال خارج الولايات المتحدة الأميركية)·
وقد كررت وزيرة الخارجية الأميركية إنكارها لممارسة أميركا للتعذيب في الكلمة التي ألقتها أمام الصحفيين قبل أن تستقل الطائرة التي نقلتها إلى العاصمة الألمانية ''برلين'' وهي العاصمة الأولى في جولتها الأوروبية التي تستغرق خمسة أيام حسبما أعلن·
فالولايات المتحدة لا زالت تصر على ادعائها القائل إنها لا تمارس التعذيب على الرغم من الأدلة الواضحة التي توافرت والتي تدل بما لا يدع مجالا للشك على أنها تمارس التعذيب بالفعل بمعايير القانون الدولي وبالفهم السليم للبشر العاديين· وهي -الإدارة الأميركية- تقوم بذلك استنادا على زعم يراد به تبرير موقفها بالقول إن المستشارين القانونين للإدارة الأميركية يعتبرون أن المقصود بالتعذيب هو إنزال أذى بدني بشخص بشكل يؤدي إلى تعطل عضو من أعضاء جسمه· أما إذا لم يحدث تعطل أو تلف لأحد أعضاء الجسم فإن وسائل الاستجواب المستخدمة لا تعتبر تعذيبا كما لا تخالف أي قانون أميركي أو دولي أو أية معاهدات معمول بها بهذا الشأن -وذلك حسب التفسير الذي تقدمه إدارة بوش للموضوع، (وفقا لتقرير منظمة العفو الدولية الصادر في وقت سابق من هذا العام هناك على الأقل 100 حالة من حالات موت السجناء و27 حالة مؤكدة أو مشتبه بها من حالات القتل العمد لسجناء أثناء الغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق)·
باختصار، الولايات المتحدة الأميركية تريد أن توصل للجميع أن الكلمات تعني فقط ما تقول هي إنها تعنيه·· على حد قول ألبيرتو جونزاليس المستشار القانوني السابق للرئيس الأميركي، ووزير العدل الحالي، والرجل الذي يعتبره الكثير من المراقبين مسؤولا عن صياغة أعراف ومعايير الإدارة الأميركية الخاصة بمعاملة السجناء·
والوزيرة رايس تقول للأوروبيين إن ممارسات التحقيق أو الاستجوابات الأميركية (التي لا ينتج عنها فشل عضو أو حتى التي ينتج عنها ذلك) وممارستها لعمليات الاختطاف غير المعلنة، وسجن الأشخاص مع حرمانهم من حقوقهم، هي كلها ممارسات جيدة لهم هم أيضا كذلك لأنها ستؤدي في النهاية إلى حمايتهم من الإرهاب· لذلك تلمح الإدارة إلى أن قيام الأوروبيين برفض تلك الممارسات يمثل نوعا من النفاق، خصوصا وأن حكوماتهم أو على الأقل أعضاء في حكوماتهم ربما كانوا يعرفون ما كان يدور، بل وربما يكونون قد تعاونوا بشكل أو بآخر مع الولايات المتحدة في ذلك، أو على الأقل قد قاموا بإدارة ظهورهم وإغماض عيونهم على كل حال··
وقد جاء في تقرير نشر بصحيفة ''واشنطن بوست'' الأميركية ما يفيد أن الولايات المتحدة، وعشية رأس السنة الميلادية 2003 قد طلبت من السلطات المقدونية القبض على مواطن ألماني متزوج ولديه خمسة أطفال كان يقوم بعبور مقدونيا في ذلك الوقت لمجرد أن اسمه كان يتشابه مع اسم ''شريك'' لأحد المختطفين الذين نفذوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر على برجي مركز التجارة والبنتاجون· وعقب القبض على ذلك الرجل بواسطة السلطات المقدونية، تم تسليمه إلى رجال الاستخبارات المركزية الأميركية ''سي· آي·إيه''، الذين قاموا بتجريده من ملابسه، وإعطائه حقنة شرجية رغما عنه، وتقييده، وتخديره، ونقله إلى أفغانستان، حيث تم تعذيبه بواسطة محققين أميركيين تحت إشراف رجل مقنع تبين فيما بعد أنه طبيب· وقد أحيط وزير الداخلية الألماني في ذلك الوقت علما باعتقال ذلك الرجل·
بعد ثلاثة شهور تم التأكد من أن هناك خلطاً في الهوية بين هذا الرجل ورجل آخر· وعقب ذلك بشهرين آخرين، وبعد مناقشة للبدائل التي يتعين اتباعها في هذه الحالة، أقنعت وزارة الخارجية الأميركية الـ'' سي آي إيه'' بالاتصال بوسيط داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في ألمانيا في ذلك الوقت·
وبعد ذلك تم اتخاذ ترتيبات لترك الرجل على قارعة إحدى الطرق في ألبانيا حيث تم التقاطه بواسطة رجال غير معروفي الهوية، ووضعه على طائرة بواسطة المسؤولين الألبان، وفي النهاية تمت إعادته إلى أسرته مرة أخرى مع تحذيره من أنه