مع فتح دائرة الكلام على حقوق الإنسان في العالم العربي منذ عِقد ونصف العقد، أخذت أضواء الباحثين العرب تتجه نحو ما كان سرِّياً ومسكوتاً عنه، إلا في بعض الأوساط النخبوية الثقافية والسياسية· ويلاحظ أن الأمر المذكور كان قبل ذلك شأناً من شؤون الفكر السياسي والتنظيم السياسي، على نحو خاص وفي غالب الأحوال· ولعل مردّ ذلك يعود إلى ضحالة الفكر الحقوقي العربي مع تعاظم المضمون الأمني وابتلاع الحياة السياسية (المجتمع السياسي) والمدنية (المجتمع المدني)· إن الفكرة القائمة على أن ''حقوق الإنسان'' تمثل منظومة مفاهيمية لها حضورها إضافة إلى استقلاليتها النسبية حيال المنظومات المفاهيمية الأخرى، فكرة مهمة، فهي منظومة تنطلق من أن حقوق الإنسان الأولية لا تستمد شرعيتها من نظام سياسي أو آخر، بقدر ما تستمدها -في الأساس- من طبيعيّتها وبداهتها· فحقّ الحياة وحق الوجود في بيئة نظيفة، مثلاً، يتلازمان مع طبائع الأمور· لقد أتت العصور الحديثة لتحمل رياح تغيير على صعيد حقوق الإنسان، وكان ذلك بمثابة الدعوة إلى التمييز بين الحقوق السياسية والمدنية الأولية، وإلى انتزاع الطبيعي من قيده السياسي·
برزت تلك المسائل وغيرها في مجموعة في المحاضرات والمداخلات، التي نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في الفترة الممتدة من 20 إلى 30 من نوفمبر الماضي، وشاركنا فيها· وقد جاء ذلك في سياق السؤال عن موقعه في حركة الإصلاح، التي يتحدث عنها النظام السياسي العربي الراهن بمعظم تجلياته القطرية· وكان ذا شأن وأهمية أن أكدنا على أن الدفاع عن حقوق الإنسان يستلزم -في الأحوال المناسبة- أن يقترن مع حركة إصلاح سياسي واقتصادي اجتماعي، لكن دون أن يكون مندغماً بها، ومما يسمح بالتحدث عن كيان معين وخاص للنشاط الذي يقوم على الدفاع عن حقوق الإنسان· ولعل هذا الوضع يظهر بكيفية مركزة في بلدان تهيمن فيها أنماط من الحكم الأقرب إلى الاستفراد بالسلطة الاستبدادية· وقد أوصلنا ذلـك إلى القــول إن الإقــلاع في النشاط المذكور وبــه ليــس مشروطاً -على نحوٍ آلي وحازم- بالإقلاع في حركة الإصلاح السياسي والاقتصادي الاجتماعي وبها· وهذا، بدوره، يفتح أفقاً أمام حراك عمومي ''إنساني'' يضم كل أو معظم الأطياف المجتمعية: إن الوقوف في وجه تعذيب الخصوم السياسيين والإيديولوجيين من قِبل من لا يحتملونهم، والدفاع عن المرأة، إن هذا وذاك، مما يندرج في نطاق ''حقوق الإنسان''، يمثلان حالة لا تشترط الانخراط في حزب أو تنظيم سياسي مُوالٍ أو معارض·
ها هنا، أخذت تبرز قناة جديدة تتجه باتجاه تجديد المجتمعات العربية وإحراز ما يعمل على تأسيس حراك جديد فيها، ونعني قناة الدفاع عن حقوق الإنسان وما تنطوي عليه من ضرورة التأسيس لمجتمع مدني طليق· أما أهمية ذلك فتبدو في أنه راح يشير بالإصبع إلى المهمة العظمى، التي على النظم السياسية العربية أن تنجزها، وهي الانخراط في مشروع إصلاح وطني ديمقراطي يحقق أمرين اثنين، يتمثل أولهما في إعادة بناء مجتمعاتها، التي انتهت -في إجمالها- إلى حطام من الاقتصاد والتكنولوجيا والتعليم والسياسة والقضاء وغيره· فلقد أحكم هذا الحطام سطوته على المجتمعات العربية وغلّق عليها أبواب الحداثة والحرية والتقدم، وجعلها ثمرة يانعة للقطف من ''أيّ عابر سبيل''· أما الأمر الثاني المطلوب من مشروع الإصلاح المذكور فيتحدد في تحصين تلك المجتمعات حيال التدفق الخارجي، الذي يسعى -في كل الأحوال- إلى إحكام القبضة عليها، وليس بعيداً عنا ما حدث في العراق وما يحدث الآن في سوريا·
لقد جاءت الحوارات والمداخلات والمناقشات حول المسائل المذكورة في ندوة القاهرة، خصبة في إجمالها وعمومها· ومع ذلك، ظلت مجموعة من الأسئلة معلقة ومشكلة تنتظر مَن يجيب عليها من سادة النظم العربية· وقد تكون التالية من تلك الأسئلة في مقدمة الموقف: لماذا لا يبدؤون هم في فتح دائرة دواخلها قبل أن يفتحها الآخرون من الغزاة؟ لماذا لا يعلنون بوضوح عملي ونظري أن رهانهم في الإصلاح والتغيير الديمقراطيين إنما يقع على شعوبهم العربية أولاً، وليس على ''الدول العظمى'' وخصوصاً الولايات المتحدة؟ ألا يرون أن حالة المراوغة في إنجاز مشروع الإصلاح والتغيير المذكور قد انتهت أمام شعوبهم وكذلك أمام الخارج الذي يبحث عن ثغرة ما في الدواخل العربية للانقضاض عليها؟ وأخيراً لماذا يعتقدون أن الصمت ما زال ممكناً؟