نجاح المبادرة السعودية في تجاوز عقدة مكان الاستجواب، وتحقيق اتفاق سوري مع ميليس على مقر الأمم المتحدة في فيينا كمكان لاستجواب المسؤولين السوريين الخمسة، اختراق مهم، لكنه لا يمثل مخرجاً من المأزق· هو خطوة ضرورية، أولاً لتحريك عملية التحقيق في اغتيال الحريري، وثانياً لتجنيب سوريا عقوبات دولية بتهمة عدم التعاون في هذه المرحلة من التحقيق· لكن المأزق السوري لا يزال في بدايته· أين يكمن هذا المأزق؟ دمشق تعتقد أن أطرافاً دولية تستخدم التحقيق في جريمة الاغتيال لاستهداف سوريا، وهي محقة في ذلك· بدورها تشكو لجنة التحقيق الدولية من أن سوريا تريد التفاوض حول التحقيق، ولا تريد التعاون الكامل معه· في هذه الحالة، وفي غياب دليل دامغ، تبقى أبواب الاحتمالات مفتوحة· إما أن ممانعة سوريا في التعاون نابعة من خوف الاستفراد بها بغرض استهداف النظام، ولا فرق كبيراً هنا بين استهداف لتغيير النظام أو لتغيير سلوكه وسحب ما بيده من أوراق إقليمية· كلاهما في الأخير قد ينتهي إلى النتيجة نفسها· هناك احتمال أسوأ، مجرد احتمال، وهو أن ممانعة سوريا في التعاون نابعة من معرفتها بتورط مسؤولين فيها في الجريمة، وبالتالي ليس أمامها إلا الإصرار على آلية التفاوض بدلا من التعاون المفتوح، وذلك بأمل تعقيد التحقيق بفرض التداخل بين ما هو قضائي وما هو سياسي في قضية التحقيق·
بالنسبة للجنة التحقيق الدولية، يبدو أنها لا تملك أدلة واضحة وكافية ضد سوريا حتى الآن على الأقل، وبالتالي تستفيد من أية ضغوط سياسية على دمشق· هذه الضغوط تدفع سوريا لتعاون أكثر، وتسمح للجنة بحرية أوسع في عملها مع دمشق· في الوقت نفسه لا يمكن تفادي أن اللجنة هي في الأخير جزء من التركيبة السياسية والثقافية للغرب الذي يجد النظام السوري نفسه في مواجهته· لكن ما يزيد من مأزق دمشق هو طبيعة أداء النظام السياسي السوري مع الجريمة منذ البداية، وطبيعة تعاطيه مع التحقيق بعد ذلك· أهم ما يتسم به هذا الأداء، وقد يضر بقضية الطرف السوري في التحقيق، هو التناقض· من ناحية يصر النظام وعن حق على أنه مستهدف أميركياً· وعليه يرى أن عمل اللجنة الدولية في التحقيق في الجريمة يتعرض لعملية تسييس موجهة ضد دمشق مسبقا· لكن من ناحية أخرى، تحاول سوريا من جانبها تسييس التحقيق في الاتجاه المعاكس· في كلتا الحالتين، التسييس والتسييس المعاكس، يختلط السياسي بالقضائي· وهو اختلاط قد يفتح ثغرة أمام الاستهداف الأميركي لدمشق، كما يقول السوريون· في الوقت نفسه، وكما يرى الطرف الآخر، قد يسمح هذا الاختلاط بتمييع التحقيق، ويمنعه من التوصل إلى كشف الحقيقة وراء اغتيال الحريري·
الاستهداف الأميركي لسوريا واضح وصحيح· لكن تسييس عمل اللجنة مسألة أخرى· هو آلية قابلة للتوظيف من قبل أي طرف من أطراف القضية، ولأهداف لا علاقة مباشرة لها بالهدف النهائي والمطلوب للتحقيق· وبالتالي فإن تسييس أو محاولة تسييس عمل اللجنة الدولية أكثر تعقيداً·
الأطراف التي قد تستفيد من هذه الآلية ثلاثة: الولايات المتحدة، وسوريا، ولجنة التحقيق· الولايات المتحدة لن تتضرر كثيراً من التسييس، لأنها ببساطة ليست طرفا في التحقيق في الجريمة· علاقتها بالتحقيق من خلال مجلس الأمن الدولي، وثقلها الكبير داخله· هي طرف قد يستفيد من التسييس، لكن من دون أن تتضرر إذا ما فشلت في مسعاها هذا· لن يتسبب الفشل لها بضرر سياسي ملموس· قد يترتب عليه عرقلة سياساتها، لكنها عرقلة في الأغلب مؤقتة· الطرف المرشح لأكثر الضرر من التسييس هنا هو الطرف السوري· فسوريا ليست فقط طرفاً في التحقيق، بل طرف متهم، أو تحوم حوله شبهة التورط في الجريمة التي تحقق فيها اللجنة الدولية· وبالتالي من مصلحة سوريا أن تبتعد بالتحقيق قدر الإمكان عن أية محاولة لتسييسه في أي اتجاه· قوة سوريا في القضية المطروحة إما أن تكون قانونية وقضائية، أو لا تكون· لأن سوريا من الناحية السياسية ضعيفة إقليميا ودوليا، وضعيفة في مجلس الأمن· ومن ثم فإن هدفها يجب أن ينحصر في دفع أية شبهة بتورط أي من مسؤوليها في الجريمة موضوع التحقيق·
بالنسبة للجنة التحقيق الدولية ذاتها، ورئيسها ميليس، ليس هناك ما يشير إلى تجاوز ملحوظ لحدود عملها القضائي، أو الانزلاق إلى حدود اللعبة السياسية· لكن من الطبيعي أن تحاول بعض الأطراف توظيف، أو أن تعمل على توظيف عمل اللجنة لأغراض سياسية تخصها هي دون غيرها· مثلا، الولايات المتحدة توظف اتهام سوريا، والتحقيق مع سوريين كورقة ضغط على دمشق· وهذا متوقع، بل قد يكون طبيعياً· لكن اللافت والغريب أن دمشق من ناحيتها لم تتعاطَ مع اللجنة حتى الآن إلا بطريقة سياسية ولأهداف سياسية· بعبارة أخرى، كلا الطرفين الأميركي والسوري يعمل على تسييس عمل لجنة التحقيق·
كما قلنا تسييس عمل لجنة التحقيق يضر بسوريا أكثر مما يضر بالأميركيين من ناحيتين: الأولى أميركية لأن التسييس يُسهّل سياسة الاستهداف، والثانية زاوية سورية لأن إصرار دمشق على التعاطي مع اللجنة بطريقة سياسية، والإص